أمير طاهري


تخيل أنك اطلعت على سر ربما يؤدي الكشف عنه إلى إشعال جدال حول إحدى القضايا الرئيسية المتعلقة بالشأن العام، هل كنت ستتسرع في نشره بغض النظر عن عواقب هذه الخطوة؟ وماذا ستفعل إن كان الإفصاح عن هذا السر سيؤدي إلى إزهاق أرواح، بعضها قد يكون لأفراد من معسكرك؟

جميع العاملين في مجال الإعلام واجهوا، أو من المرجح أن يواجهوا، هذا الموقف المحير في وقت ما في حياتهم المهنية.

وقد تعرضت لهذا الموقف للمرة الأولى في ربيع عام 1973، عندما كنت رئيس تحرير صحيفة laquo;كيهانraquo;، الصحيفة اليومية الرئيسية في إيران، حيث تلقيت نبأ هبوط طائرة بريد سوفياتية على طريق سريع بالقرب من مدينة تبريز، شمال غربي إيران، وأن قائدها يطلب مقابلة أحد المسؤولين. وقد أخبر قائد الطائرة مراسل الصحيفة بأنه يسعى لطلب اللجوء السياسي.

بدت قصة جيدة تكتمل أركانها مع صورة للطائرة السوفياتية. وبعد لحظات قليلة، بدأت وكالات الأنباء والصحف في تداول الخبر، وسرعان ما التقطته جميع وكالات الأنباء العالمية، وذلك قبل أن يتمكن المسؤولون الإيرانيون من الوصول للطيار والتحدث معه.

وبعد يومين، أصدرت وزارة الخارجية بيانا أعلنت فيه أن الطيار تم استجوابه، وأن السلطات بصدد إعادته إلى الاتحاد السوفياتي بموجب اتفاق موقع بين طهران وموسكو منذ عدة سنوات. وبعد أشهر قليلة، جاءت الأنباء بأنه قد تم إعدام الطيار، وسجن ما يزيد على عشرة من أصدقائه بتهمة التواطؤ في محاولة انشقاقه الفاشلة.

وعند هذه النقطة، أحسست بشعور غريب من الندم، تحول بعد ذلك إلى إحساس كامل بالذنب، عندما أخبرني وزير الخارجية أن نشر خبر هذا الطيار كان قرارا خاطئا. وأخبرني بأن العشرات من المواطنين السوفيات يهربون إلى إيران كل عام، غالبا في طريقهم إلى الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية، ويسمح لهم بالخروج من البلاد قبل أن يطلب الاتحاد السوفياتي تسليمهم. وقال الوزير laquo;لو أنكم لم تقوموا بنشر قصته في الصحيفة، لكان سيسمح له بالخروج من إيران فورا، وسيسمح لنا بأن نقول للسوفيات إنه لم يكن موجوداraquo;.

وغني عن القول، أن هذا الشعور بالذنب ظل يرافقني على مدى السنوات الـ35 الماضية. فلا يوجد خبر يستحق إزهاق حياة إنسان واحد.

وخلال هذه السنوات، كان شبح الطيار السوفياتي يعود لمنعي من تكرار هذا الخطأ. وقد جاء الثمن الذي دفعته في شكل سوابق صحافية كان من الممكن أن تدفع بحياتي الصحافية إلى آفاق بعيدة.

تذكرت الطيار السوفياتي، الشهر الماضي، عندما نشر موقع على شبكة الإنترنت الآلاف من الوثائق المسربة عن الحرب في العراق وأفغانستان.

ولقد أمضيت عدة أيام في قراءة أكبر عدد ممكن من هذه الوثائق. واكتشفت أن معظمها لا يقدم شيئا جديدا. والأثر التراكمي لهذه الوثائق هو تصوير الولايات المتحدة باعتبارها كيانا فوضويا ضخما.

ومن الواضح أن الولايات المتحدة لم تكن معدة لتكون بمثابة إمبراطورية ذات أهداف واضحة وراسخة ووسائل لتحقيقها. لكن ذلك لم يكن سرا بالنسبة لنا نحن الذين درسنا نمط السلوك الأميركي على مدى عدة عقود.

ومن المؤكد أن أثر هذه التسريبات سيكون هامشيا على مسار الحرب في أفغانستان، والمرحلة الحالية من توطيد أوضاع ما بعد الحرب في العراق.

ومع ذلك، فإن التسريبات تضمنت أسماء نحو 40 أفغانيا قرروا، لأي سبب من الأسباب، إبلاغ قوات الناتو عن وجود مقاتلي طالبان في مناطقهم. وعندما تضيف إلى ذلك سلسلة من الوثائق الأخرى التي يمكن أن تؤدي إلى كشف أسماء أكثر من 100 أفغاني آخر من الذين قدموا تحليلات وآراء، عندئذ ستدرك أن حياة العشرات أصبحت في خطر.

على مدار الأسابيع القليلة الماضية، حاول الموقع الذي سرب الوثائق والرجل الذي يقف وراءه تبرير هذه التصرفات باسم حرية المعلومات.

لقد استغرقت الديمقراطيات الغربية أكثر من 200 سنة للتوصل إلى ما يمكن أن نطلق عليه شريعة الحريات الفردية والجماعية. وفي هذه الشريعة، يكون مفهوم حرية المعلومات أكثر قداسة. وسبب هذه المكانة التي تحتلها حرية المعلومات هو أنه لكي يستطيع الناس اتخاذ القرارات الصحيحة، خصوصا فيما يتعلق باختيار حكومتهم في الانتخابات، فإنهم بحاجة إلى أن تتاح لهم المعلومات بشكل صحيح.

لكن التسريبات الأخيرة لا يمكن تبريرها حتى باسم حرية المعلومات، وذلك لأنها كما أشرنا سابقا لم تكشف سوى عن هوية بعض الأفغان الذين سيكونون من الآن محل استهداف سفاحي طالبان. وبعيدا عن ذلك، لم تكشف هذه الوثائق سوى عن حالة الارتباك التي سادت في بعض فترات إدارة الرئيس السابق جورج بوش، والفوضى الأكبر التي وقعت في عهد الرئيس الحالي أوباما، وهذه الأمور ليست سرا لأي مطلع على الصحف أو متصفح لمواقع الإنترنت.

وينبغي على الصحافيين الجيدين أن يكونوا دائما حذرين من التسريبات. فلا يمكن لأحد في حوزته سر أن يقوم بتسريبه إلا إذا كانت له أجندة سرية. ولم أنخدع يوما من الأيام بالادعاء بأن دافع من يقومون بتسريب المعلومات حبهم للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

وأرى أن صحافة التسريبات لا تستحق الثناء، لأن المراسل الذي تُقدم له وثائق ليقوم بالكشف عنها لم يقم بأي شيء بنفسه.

هذا هو السبب الذي جعلني لا أعتبر بن برادلي، وهو صديق عزيز لي منذ سنوات كثيرة، نموذجا للصحافة. فالرجل الذي تسبب في فضيحة ووترغيت التي دمرت رئاسة نيكسون، اعترف لاحقا بأنه قد تصرف من منطلق المصلحة الحزبية. وقال إنه لم يكن يريد أن يصبح نيكسون رئيسا، وكان مصمما على مساعدة من يسعون لإسقاطه. وعلى الرغم من أنني لم أكن من أنصار نيكسون، ولم أذرف الدمع على سقوطه، فإنه سقط ضحية لصحافة الكسالى. وكان سبب سقوطه تسريبات صحافية وليس عقابا من الناخبين، وهو أمر كان يستحقه.

وفي السياسة، ليس هناك أفضل من أن يعود المرء دائما إلى الرجل الذي وضع قواعدها الأولى، وهو أرسطو، الذي حذر من أن من يكشف لك سر الآخرين من المرجح أنه سيكشف سرك للآخرين أيضا.