ميرزا أمان


تأتي المعرفة في المقام الأول ضمن الأمور الهامة للإنسان، قبل أي شيء وبالتأكيد قبل حصوله او نيله لحقوقه المدنية. إذ لا يمكن له ان يحسن الاختيار إذا فقد المعرفة والقوة على الاختيار. وأذكر هنا مقولة الصحفي والسياسي والروائي البريطاني وليام غودوين في هذا الموضوع: laquo;إجعل الناس حكماء وبذلك تجعلهم أحرارا، فالحرية المدنية هي نتيجة الرقي الفكري ولا يمكن لأي جهة مغتصبة، مهما بلغت قوتها، أن تقف في وجه مدفعية الرأي.raquo; فمن يملك الرأي السليم والقوة على الاختيار، وهما نتيجة العلم والمعرفة، بإمكانه تأمين حقوقه المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، والعكس هو الصحيح. ولقد وعى المستعمر القديم ومن بعده المستعمر الحديث الى هذه الحقيقة فأخذ يحارب المعرفة تارة ويقننها ويوجهها تارة أخرى، وما ذلك إلا خوفا من نتائجها التي لا قبل له بها.
نعرف الأسباب التي تدفع المستعمر، الحديث والقديم، الى محاربة المعرفة ولكن الذي لا نعرفه هي الأسباب التي تدفع جمعياتنا الدينية/السياسية التي طالما طالبت بحرية الإنسان وحصوله على حقوقه المدنية والسياسية والاجتماعية، وهي في الأساس ما قامت وما أنشئت إلا لهذا الغرض، الى محاربة المعرفة وإصرارها على تغييب المعرفة عند الفرد وحرمانه من القدرة على إتخاذ القرار وتنصيب نفسها الناطقة والعاملة بإسمه والمقررة لمصيره وفكره وهي التي تحدد كمية ونوع المعلومات التي يجب عليه الحصول عليها. تمنعه حتى من التفكير في القرار الذي يتخذه. عليه أن يترك هذا الأمر لها. فهي التي تقرر له وعنه وترسم له طريقه وتجرِّم معارضته لها. وتمنعه حتى من مجرد التفكير في مقاومة استباحتها لأبسط وأول حقوقه، أخذت ترعبه وتخوفه من تبعات مخالفته لقراراتها وعمل عكس ما تقرر وتشتهي وتهوى.
هذه الجمعيات دخلت الى الفرد من الباب الذي يجله ويحترمه ويخافه ويرحب بكل ما ولج من خلاله، وهو باب الخوف من الله. استغلت إيمان الفرد بخالقه واتباعه لأوامره وخوفه من تبعات مخالفته أوامر خالقه فلبست عباءة الإسلام وجيرت من وهب نفسه لخدمة الإسلام لجانبها وأخذت تملي آراءها وأفكارها وقراراتها على الفرد مجبرة إياه على تغييب عقله وتجاهل فكره. وكان من الطبيعي ان يستجيب ذلك الفرد لمخططات وأهداف تلك الجمعيات. كيف لا وهو الذي لم يُسمح له بالمعرفة إلا بما أراده له المعلم الديني، وهو الذي يخاف مغبة مخالفة العلماء، وهو الذي يرفض مجرد فكرة تخطئة العالم laquo;لأن لحم العالم مسموم!raquo;
عندما قلنا في الفقرة السابقة لا نعرف الأسباب التي تدفع الجمعيات الدينية/السياسية لاستعمار فكر وعقل الفرد لا نعني الأسباب بمعناها اللفظي، وإنما بمعنى لماذا وكيف التعجبيتين؟ فالأسباب بالمعنى اللفظي معروفة وواضحة. فالقائمون على تلك الجمعيات بشر ومن طبيعة البشر حب الجاه والشهرة والغنى وغير ذلك من الغرائز التي بُلي الإنسان بها. ولكن كيف لجمعية او شخص ادعى، ولا يزال يدعي، المطالبة بالحقوق المدنية والديمقراطية والحرية أن يقوم هو بسلب الناس حقهم الأساسي والرئيسي وهو حقهم في المعرفة؟ كيف لشخص طالما نادى بالحرية والديمقراطية ان يصر على إجبار الناس على تغييب رأيهم ويسلبهم فكرهم وينصب نفسه مفكرا لهم وبدلا عنهم؟ إن تجرأ أحدهم وخالفه الرأي سل سيف أنانيته ومصالحه الشخصية مدعيا أنه سيف الإسلام فكفّر من كفّر وأدخل النار من أدخل. نحارب الأجانب لأنهم يريدون توجيه مناهجنا التربوية بحجة ان ذلك يتماشى ويخدم برامجهم وأهدافهم السياسية ونقوم نحن بتغييب فكر الإنسان وحبسه في زنزانات أطماعنا الشخصية والفئوية!
وحتى توقف الجمعيات الدينية/السياسية غلوها واستبدادها، أو تُوقف عند حدها، سيبقى فكر الكثير من الأفراد مغيبا وبدوره ستبقى قرارته خاطئة وحرياته مسلوبة، حتى وإن قامت السلطة التنفيذية بتقديم تلك الحريات له على طبق من ذهب.