فيصل جلول
احتل التحذير من الفتنة مرتبة سامية في الثقافة العربية الإسلامية استناداً إلى الآية الكريمة ldquo;والفتنة أشد من القتلrdquo; . وعلى الرغم من أن الآية تتحدث عن الفتنة بمعنى الكفر، والمفتنين بمعنى الكفار من العرب في مطلع الإسلام وليس بمعنى إثارة المؤمنين ضد بعضهم بعضاً، فإنها تستخدم في يومياتنا بمعنى زرع الشقاق وتفجير الخلافات بين مؤمنين ينتمون إلى مصدر إيماني واحد أو بين أبناء قوميتنا وأمتنا الواحدة، وقد أصبحت الآية متداولة حكمة في الفضاء العربي الإسلامي، يستخدمها جميع المنتمين إلى هذا الفضاء، بغض النظر عن انتمائهم القومي أو الديني . أما حديث ldquo;الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظهاrdquo;، فهو ينحصر بالمسلمين وبالعرب منهم تحديداً، لأنه قيل في سياق عربي بين الكفار والمؤمنين من قريش، وهو اليوم يستخدم أيضاً للتحذير من تحويل الشقاق النائم بين المسلمين إلى انفجار حي لا يبقي ولا يذر . ومن هذا الاستخدام يتضح أن الناس في فضائنا، وقد فرغوا من قضية الكفر والإيمان في بيئتهم لجأوا إلى استخدام الآية والحديث للتنبيه من ظواهر ناشئة لاحقاً في هذه البيئة، ومنها الخلاف السياسي بين المسلمين العرب حول الخلافة وأيهم الأفضل لتوليها، وهو خلاف مازال متوارثاً حتى اللحظة مع الأسف الشديد .
سوى أن هذا الخلاف ليس حصرياً بين الذين يعيشون في الفضاء العربي الإسلامي، فهناك عناصر اختلاف وانشقاق أخرى كثيرة قومية وإثنية ومذهبية وأيديولوجية وكلها قابلة للتحذير من الفتنة بمعنى تفجير عناصر الاختلاف وقد نجح هذا التحذير قروناً بفضل تجارب التعايش الطويلة والغنية بالعبر في ماضينا ما خلا استثناءات في التاريخ الحديث والمعاصر، نشأت عن تدخل الأجانب في شؤوننا، وبالتالي إيقاظ الفتن في صفوفنا، رغماً عنا وعلى الضد من مصالحنا .
والثابت في هذا الصدد هو الترابط بين تواريخ الفتن وتواريخ التدخل الأجنبي في شؤون بلداننا وهذا الترابط نجده ماثلا كالشمس بين الفتن الناهضة في كل أنحاء العراق وبين الاجتياح الأمريكي لهذا البلد .
ولولا نجاح المحتل في الرهان على الفتن وفي إشعال فتائلها وصب الزيت على نارها لربما بدت هزيمته في فيتنام تفصيلاً محدوداً بالقياس إلى هزيمته العراقية التي كان يمكن أن تتحول إلى رافعة لتوحيد الفضاء العربي - الإسلامي، وليس فقط لطرد الأجنبي من بلاد الرافدين . وقد نجح اليانكي ليس فقط في إشعال الفتن وإنما في استدراج الرجاء ببقائه، كما فعل البعض وآخرهم الأسير طارق عزيز في حديث منسوب إليه في صحيفة ldquo;الغارديانrdquo; البريطانية، علماً أن دولة العراق لم تشهد منذ تأسيسها فتنة كالفتن التي تشهدها منذ سبع سنوات، فأي مثال يمكن للعرب والمسلمين أن يعتمدوه في بيئة المنتصرين على الاحتلال الأمريكي، عندما تنطلق أصوات مهمة تستغيث بالمحتل سواء في معرض الغضب أو في معرض الطلب والرغبة لا فرق .
ومن العراق إلى لبنان حيث نلاحظ تزامن حروب الطوائف والمذاهب منذ أواسط القرن التاسع عشر وحتى اللحظة مع التدخلات والضغوط الأجنبية . وفي مصر تأتي أصوات الفتنة من الخارج بدعم وتحريض من دول أجنبية يحلو لها أن تضغط على الحكومة المصرية في هذه القضية أو تلك .
ومن مصر إلى فلسطين حيث شهدنا بأم العين كيف أن ldquo;إسرائيلrdquo;، وأمريكا والاتحاد الأوروبي اجتمعوا للضغط على ldquo;حماسrdquo;، من اجل خوض الانتخابات التشريعية رغم رفض الحركة ورغم رفض محمود عباس وسعيه لتأجيل الانتخابات، فكان أن انخرط الطرفان صاغرين للتنافس على سلطة تافهة محكومة بالتفاوض من موقع الخضوع، ومن ثم انفجر الصراع وصار مكرساً بين رام لله وغزة، في حين يتحدث مثلث النفاق الأجنبي المذكور عن وجوب توحيد الطرفين أكثر من حديثه عن وجوب رحيل الاحتلال مرة واحدة وإلى الأبد . وفي لبنان يعمل المفتنون أنفسهم على إشعال حرب مذهبية وطائفية عبر محكمة دولية في حين تتراكم جرائم الصهاينة في ادراج العدالة الدولية من دون عدل ومن يعدلون .
وبعد، ليست عناصر الانشقاق قاصرة على العرب وليست الفتن من طبيعتهم كما أنها ليست من ثوابت تاريخهم كما ldquo;يتفلسفrdquo; بعض السطحيين من المحللين العرب والمغرضين من المحللين الأجانب . فالعرب والمسلمون شأنهم كشأن أهل الأرض يتحدون في معرض الدفاع عن فضائهم الموحد ويقطعون دابر الفتن عندما يسودون فضاءهم من دون منازع أو شريك أجنبي، بالمقابل فإنهم يضعفون أمام الفتن عندما يخضعون لإرادة الأجنبي ولرغباته، كما هي الحال في العراق اليوم حيث هدم المحتل الدولة العراقية كمرجعية تحكيمية وحيدة في البلاد ودفع الناس دفعاً نحو مرجعيات ما قبل الدولة أي الطائفة والعشيرة والمذهب . . إلخ، ومن ثم يتهم أهل العراق بأن الشر منهم وليس من الاحتلال .
لا ليست الفتن جزءاً لا يتجزأ من بنيتنا الاجتماعية، وليست مكوناً من ثقافتنا، فهي كانت ومازالت وستظل جزءاً لا يتجزأ من مشاريع السيطرة علينا، فإن ضعفنا وخضعنا ظهرت الفتن وانتشر المفتنون، وإن نهضنا اختفى أثرها وأثرهم . نحن تماماً كالولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان وكل الدول الثرية في العالم، ومن لا يصدق لعله يحك تاريخهم قليلاً ليرى ما رأيته وما رآه كثيرون من قبل .
التعليقات