ربما تبدو الأحداث الحاليّة أكثر كثافةً وغموضاً وإلغازاً مع تصاعد التفوّق الاستخباري والتكنولوجي والعلمي والعسكري؛ من هنا يصعب تفسيرها وتبويبها، إنها مثل نوباتٍ لا بد من تشخيصها ثم علاجها. والواقعة الحاليّة في الإقليم تتبدّى تدريجياً ويُتعامل معها في المقام الأول على طريقتين.

الأولى: صعوبة التفسير، وآية ذلك تزاحم التحليلات والتسميات، وإفادات التحوّلات والانتقالات التي لم تطرح من قبل. وما كانت الأبحاث والدراسات مستعدّة لمثل هذا الحدث إلا عبر قليلٍ من المتخصصين. نحن في زمن تحوّل للمفاهيم، ثمة إرادة لتقويض مفهوم الدولة. رأينا مشاهد لا يمكن أن تتضابط مع مفهوم الدولة وإنما توشك أن تفرغه من المضمون بصيغ الدمج والتضمين، والأحاديث المربكة، والاتفاقيات الغامضة، على عكس ما كانت عليه الأمور بالمعنى السياسي الكلاسيكي المعتاد والمحبوك.

الأخرى: أن الواقعة هي من صارت تحدد معنى الدولة وليس العكس، وهذا ينتج عنه مسار غامض للمستقبل، وعليه فإن اللجوء إلى التحليل العادي ربما يعثّر من فرص الفهم، إلا من خلال المباشرة في الطرح.

ما يجري الآن هو تغيّر جيوسياسي عالٍ، ثمة تغيير للمعاني الاعتيادية، سواء على المستوى السياسي، أو الآيديولوجي، هناك تصاعد لتقويض معنى الدولة لصالح قبضة السلطة، على عكس ما كانت الأمور عليه قبل عقد ونيّف حين كانت الثورة مقابل الدولة، وكلا هذين المستويين يشكّل خطراً كبيراً على الفضاء السياسي.

إن من الحكمة التعاطي مع هذه الأوضاع بدقّةٍ وحنكة، والجوّ العام احتفالي وشعبوي وجماهيري كالمعتاد، ولكن هذا لن يزيد الموضوعات الإشكالية التي تطرحها المستجدات إلا وبالاً. الواقعيّة في الفهم غيرها في التعامل، والتأقلم مع الحدث لا يعني تبريره أو الانصياع له، وإنما تفسيره أو التوجّه نحو استطلاع مآلاته.

دائماً ما تُطرح مع كل حادثةٍ تزعزع معنى مؤسسياً مقارنات مع ما جرى في انتفاضات أوروبا الشرقية 1989 وما سمّي خريف الدول التي بدأت في بولندا حتى المجر وألمانيا الشرقية وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا، يطرحه بعض المحللين للتبرير، وبعضهم للمقارنة بين ما يجري في الإقليم وما جرى حينذاك في أوروبا، والواقع أن النهر لا يجري مرّتين، فالحدَث تحوّل إلى مفهوم فلسفي مستقل، ولكل حدثٍ تفسيره الخاص، والمقارنة لا تعني أن الأحداث متشابهة ومتطابقة، بل لكل واقعة ظرفها الزماني، والسوسيولوجي، والاجتماعي، والفكري، وعليه فإن محاولة نزع الحدث عن زمنيّته من خلال مقارنة تاريخية يمكن أن تساعد في التصوّر، ولكنها لن تلغي جدّة الحدث وراهنيّته واستقلاليته عن قصص التاريخ.

ومن مضاعفات الحدث المفاجئ أن يتوقّع البعض ضرورة التأقلم معه أو نتائجه ومصائره، وهذا ليس شرطاً ولا واجباً، بل على المتابع أن يرصد مستجدّه ومخاطره وتحوّلاته، ثمة ساسةٌ وقادة كبار يعرفون ماذا يقررون، ولكن في فضاء الحدث الأعم على الباحث رصد الجديد فيه وتقييمه بطريقةٍ علميّة، يمكنها أن تبوّب الفصول التي تصنع تصوّراً، واستشرافاً لاحتمالات ما يمكن أن تؤول إليه الأمور، وبمعنى آخر الحدث عمقه في غموضه فما من حدثٍ واضح، وإلا لما كان اسمه حدثاً.

الخلاصة؛ أن الحيويّة البحثيّة أعم وأشمل من التغطية الآنية، لن أتحدث عن العقد الماضي وأهواله، وإنما عن هذه السنة تحديداً التي شهدنا بها تحوّلات سياسية كبرى، والراصدون يعلمون أن الرهان على حكماء الإقليم الكبار في صياغة معنى متكامل لضبط صيرورة الأحداث ولجم المخاطر. وأخطر ما نواجهه عداء الأصوليّة لمفهوم الدولة بل الدول كلها، وهذا من أسس ما يمكن التركيز عليه، لا يمكن فهم الواقع من دون دراسة الآيديولوجيات التي يبني عليها أولئك سياساتهم الهدميّة، فالمعنى الذي يريدونه من براغماتيتهم الصاعدة، أو المقولات الخادعة هو التوسّع من أجل التقويض وليس البناء، وعلينا الانتباه من هذه النزعات الجديدة.