عبد الوهاب بدرخان

برز موقفان في بغداد في سياق الحديث عن الانسحاب الأميركي، الأول لرئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي، والثاني لرئيس أركان الجيش بابكر زيباري. الأول قال إن الحكومتين العراقية والأميركية ملتزمتان بتطبيق الاتفاق الأمني المتعلق بالانسحابات. والثاني حذر من أن الجيش العراقي لن يتمكن من تولي الملف الأمني بصورة كاملة قبل اكتمال قدراته بحلول سنة 2020، موضحاً أن quot;المشكلةquot; ستبدأ بعد 2011 حين ينهي الأميركيون انسحابهم. ولا يتعارض الموقفان، بل يتكاملان.

في واشنطن، قوبل كلام المالكي بترحيب وارتياح، وجرى تجاهل كلام زيباري، لماذا؟ لأن الأول ينساب مع الموجة السياسية الراهنة في الولايات المتحدة، ولو أمكن أوباما سحب كل القوات من العراق لفعل، آملاً في دعم حظوظ مرشحي حزبه للانتخابات النصفية. أما الثاني، الذي لم ينكر الوفاء بالالتزامات، فيشير إلى quot;المهمة غير المنتهيةquot; التي سيخلفها الأميركيون وراءهم. ويلتقي رئيس الأركان هنا مع رأي مراقبين أميركيين وغير أميركيين يعربون عن القلق من تطورات ما بعد الانسحاب، كما أنه يلتقي ولو من دون أن يرغب -ومن موقع الاختلاف- مع طارق عزيز، أحد رموز النظام السابق، في قوله إن الأميركيينquot;سيتركون العراق للذئابquot;.

رئيس الوزراء المنتهية ولايته يعرف أن رئيس الأركان لم يبالغ في توقعاته، لكن هذا هو الفارق بين السياسي والعسكري، خصوصاً في العراق اليوم. فالأول يطمئن الأميركيين على النحو الذي يرغبون فيه الآن، والثاني يحاول تنبيه العراقيين مما هو آت. الأول يهمه حالياً أن لا تنتهي ولايته وسيرى بعدئذ ما يمكن عمله، والثاني يطالب السياسيين بإيجاد quot;أساليب أخرى لتعويض الفراغquot; في مرحلة ما بعد 2011. ولكن، أنى لهم وهم منشغلون منذ خمسة شهور ونيف باجتراح كل quot;الأساليب الأخرىquot; لإيجاد المعادلة الكيميائية للحكومة الجديدة، من دون جدوى. لكن السفير الأميركي المغادر كريستوفر هيل متفائل، بحكومة quot;خلال بضعة أسابيعquot;.

الواقع أنه منذ 2003 لم يسبق للأميركيين أن كانوا شديدي الإعجاب بالوضع العراق كما هم الآن، فالمصلحة تقضي برؤية كل شيء بأنه على ما يرام تبريراً للانسحاب. وفي أي حال، لا أحد ولا شي يستطيع إثبات أن بقاء سلطة الاحتلال كان يمكن أن يكون عنصراً إيجابياً، فقد خربت ما جاءت لتخريبه ولم تنجح في إعادة بناء ما تم تخريبه، النظام والدولة والجيش والمؤسسات، وحتى الخدمات. صحيح أنها صرفت الكثير من المال، لكنها بدل أن ترى عراقاً ينهض من رماه وينتظم ويصبح وطناً لكل أبنائه، رأت درزينات عدة من العراقيين quot;يتملينونquot; وquot;يتمليرونquot; في أوسع حال فساد يشهدها العراق وهو بحاجة إلى كل دولار لإعادة البناء.

الأزمة الحكومية الراهنة تفاقمت لأسباب داخلية وخارجية معاً، هناك أربعة ائتلافات تمثل ثلاثة كيانات وتتنافس على ثلاث رئاسات. الحكومة ستضم الأربعة لكن بعد الاتفاق على الرئاسات، أو بالأحرى على إحداها الأهم، رئاسة الوزراء. الخلاف الأبرز بين الائتلافين الشيعيين، وهو يعطِّل أي اتفاق يؤدي إلى بقاء المالكي في منصبه، من دون أن يعزز حظوظ إياد علاوي زعيم ائتلاف quot;العراقيةquot; وإنما يبقيه في السباق. لكن ثبات الثنائي المالكي - علاوي في الطموح حال حتى الآن دون طرح المرشح الثالث، أو مرشح التسوية، الذي يفترض عندئذ أن يحظى بتأييد ائتلاف المالكي أو علاوي، بالإضافة إلى تأييد الائتلاف الكردي. أما الخلاف الآخر الذي سيبرز، بعد حل عقدة رئيس الوزراء، فيتوقع أني يأتي خلال التفاوض على شرط الأكراد للمشاركة في الحكومة، إذ أن أي انتقاص من quot;الامتيازاتquot; التي حصلوا عليها من المالكي سيعني عقبة أخرى جديدة أمام تشكيل الحكومة.

ما زاد الأزمة صعوبة وتعقيداً أن أطرافها المحليين والخارجيين وجدوا أنفسهم في مرحلة حائرة تفترض الحذر وتقليب الاحتمالات والحسابات قبل الانتقال إلى حسم الخيارات. فلا أحد يملك تصوراً واضحاً لما سيصبح عليه quot;التقاسم الضمنيquot; الأميركي-الإيراني للنفوذ بعد الانسحاب الأميركي، ولا كيف سيتطور ويدار. لذلك لا يبدو الأميركيون متعجلين للضغط في اتجاه تفضيل علاوي أو المالكي بل لا يزالون يحبذون تعاونهما. كذلك لا يبدو الإيرانيون متعجلين لحسم خلاف المالكي مع الصدريين والمجلسيين. فالأزمة المفتوحة خير من الخيارات غير المضمونة. وفي الأثناء تواصل quot;القاعدةquot; تفجيراتها اليومية