Mohamad Bazzi


بينما يتقرب الرئيس الأسد من المملكة العربية السعودية ويحاول شق طريقه عائداً إلى 'الصف' العربي، يحافظ على علاقته بإيران وحلفائها: 'حزب الله' و'حماس' والفصائل الشيعية العراقية. وتُعتبر هذه الخطوات تقليدية لطرق إدارة شؤون الدولة التي اتبعها والد بشار، حافظ الأسد، الذي حكم سورية طوال ثلاثة عقود.

منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في فبراير عام 2005، شكّل لبنان محور صراع على السلطة بين سورية وإيران والمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة.

في خطاب ألقاه قائد 'حزب الله'، حسن نصرالله، على التلفزيون قبل أيام، حاول أن يحوِّل الانتباه من الخلافات الداخلية اللبنانية إلى عدو قديم: إسرائيل. فقدم ما وصفه بأنه قرائن تورط إسرائيل في مقتل الحريري، لكن خصوم 'حزب الله' السياسيين لم يقتنعوا.

يبقى لبنان على شفير الهاوية مع تنامي المخاوف من أن تتهم المحكمة الدولية أعضاء من 'حزب الله' بالتورط في مقتل الحريري. وطوال أسابيع، حاول نصرالله التخفيف من وطأة هذه التهم في حال وُجِّهت إلى أعضاء من حزبه.

لكن المستفيد الأكبر من هذه الأزمة الأخيرة في لبنان هو النظام السوري، والمفارقة أن لبنانيين كثراً يلومون هذا النظام على مقتل الحريري. قام الرئيس السوري بشار الأسد والعاهل السعودي، الملك عبدالله، بزيارة مشتركة إلى بيروت الشهر الماضي، كان هدفها الاجتماع بالقادة اللبنانيين وتهدئة المخاوف من أن يتجه البلد مرة أخرى نحو حرب أهلية. وهدفت هذه الزيارة أيضاً إلى التأكيد للعالم العربي أن المصالحة السعودية-السورية تسير على المسار الصحيح. كذلك شكلت رسالة من الأسد إلى واشنطن، مفادها: لا يمكن أن يبقى لبنان مستقراً من دون الوصاية السورية.

ولكن بينما يتقرب الرئيس الأسد من المملكة العربية السعودية ويحاول شق طريقه عائداً إلى 'الصف' العربي، يحافظ على علاقته بإيران وحلفائها: 'حزب الله' و'حماس' والفصائل الشيعية العراقية. وتُعتبر هذه الخطوات تقليدية لطرق إدارة شؤون الدولة التي اتبعها والد بشار، حافظ الأسد، الذي حكم سورية طوال ثلاثة عقود.

بما أن سورية لا تتمتع بغنى نفطي كبير أو نفوذ اقتصادي واسع، يستمد النظام السوري قوته من موقع بلاده الاستراتيجي وتحالفاته المدروسة بدقة. فقد أدت سورية دور اللاعب الإقليمي وحامل راية العروبة منذ عام 1970، حين وصل حافظ الأسد إلى السلطة عقب انقلاب عسكري. فقد اتقن حافظ الأسد فن تبديل التحالفات، مبقياً أعداءه منشغلين بمعارك مكلفة.

عندما توفي الأسد عام 2000 وخلفه ابنه بشار، اعتقد كثيرون أن طبيب العيون الرقيق هذا لا يملك براعة أبيه في موازنة الأوراق الإقليمية. ولكن بعد مرور عشر سنوات، اتضح أن الأسد الابن اضطلع بدوره بكل سهولة، متحولاً إلى رجل قوي عليه التكيّف مع القوى الإقليمية المتقلبة.

لم يتسنَّ للرئيس بشار الأسد وقت طويل ليألف التفاعلات الإقليمية، قبل أن يواجه غزو العراق في عام 2003 ورغبة إدارة بوش في 'تغيير النظام' في دمشق. نتيجة لذلك، تدخلت سورية في العراق ودعمت المجاهدين الفلسطينيين الذين يعارضون السلام مع إسرائيل وبسطت هيمنتها على جارتها الصغيرة، لبنان.

وبينما سعت واشنطن إلى عزل دمشق، اتخذت بعض القوى العربية، خصوصاً المملكة العربية السعودية، مواقف عدائية من الأسد وتحالفه المتنامي مع إيران. كذلك فرضت إدارة بوش عقوبات اقتصادية في عام 2004 على سورية، متهمة إياها بإيواء القادة البعثيين العراقيين والسماح للمجاهدين الإسلاميين بالعبور إلى العراق ومحاربة القوات الأميركية. وقويت سياسة العقوبات والعزلة، التي اتبعتها الولايات المتحدة، إثر اغتيال الحريري، الذي حمّلت واشنطن سورية مسؤوليته.

كان الحريري مقرباً من العائلة الملكية السعودية، فزاد مقتله من توتر العلاقات بين سورية والمملكة. وقد بلغت هذه العلاقات الحضيض خلال حرب عام 2006 بين حزب الله وإسرائيل، حين دعا الأسد القادة العرب 'أنصاف رجال' بسبب انتقادهم لها. وفي عام 2008، قاطع الملك عبدالله قمة جامعة الدول العربية التي عُقدت في دمشق، وسحب سفيره من العاصمة السورية.

رداً على هذه المعاملة الباردة من الولايات المتحدة وحلفائها العرب، زاد الرئيس الأسد اعتماده على إيران، التي دعمت الاقتصاد السوري، مقدمة له استثماراتِ بناء ونفطاً بخس الثمن. كذلك عززت دمشق روابطها بـ'حماس' و'حزب الله' والزعيم الشيعي العراقي المتمرد، مقتدى الصدر. وفكّر الأسد أن هذه التحالفات ستساعده في صوغ الأحداث في الأراضي الفلسطينية ولبنان والعراق، وستشكّل أوراق مقايضة مفيدة في أي مفاوضات مستقبلية مع الولايات المتحدة.

من الخطأ الافتراض أن المناورات الدبلوماسية الأخيرة تعني أن سورية ستتخلى عن إيران أو ستقف إلى جانب واشنطن. فقد استمر التحالف السوري-الإيراني طوال 30 سنة تقريباً، ولا يمكن التخلص منه بسهولة، لكن الأسد يسعى بدأب إلى وضع حدّ لفترة العزلة المرة التي بدأت بعد الغزو الأميركي للعراق. فلم تتعرض سورية لمعاملة قاسية إلى هذا الحد منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، حين اختلفت دمشق مع معظم العالم العربي بسبب دعمها إيران في حربها ضد العراق.

وبفضل الحرب على العراق، صار نظام الأسد أقوى، فعلى الرغم من أن الحكومة البعثية في سورية عملت على توقيف الناشطين الموالين للديمقراطية وقمع أي مظهر من مظاهر المعارضة السياسية، بيد أنها قدّمت الأمن للسوريين الذين أرعبتهم المجزرة في العراق.

يصبّ الأسد تركيزه اليوم على صون حكم نظامه. وقد يفسّر ذلك تاريخ سورية الطويل من التحالفات الصعبة وحذرها الدائم، لكن هدف الأسد الرئيسي يبقى استعادة مرتفعات الجولان، منطقة استراتيجية احتلتها إسرائيل خلال حرب عام 1967.

يسعى النظام إلى تأكيد شرعيته، ولا شك في أنه سيحقق مكاسب كبيرة في حال نجح بشار حيث أخفق والده واستعاد مرتفعات الجولان. عرضت سورية مرات عدة أن توقع اتفاق سلام منفصلاً مع إسرائيل مقابل حصولها على المرتفعات، غير أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لم يبدِ استعداداً للتفاوض مع دمشق.

ولايزال مسار المفاوضات حالكاً حتى اليوم، لكن سورية ستواصل اللعب على التفاعلات الإقليمية لتروّج مصالحها. بكلمات أخرى، يبقي الرئيس الأسد خياراته مفتوحة، تماماً كما علّمه والده.

* باحث في مجلس العلاقات الخارجية الأميركية بمدينة نيويورك وبروفيسور متخصص في الصحافة بجامعة نيويورك