علي سويدان


لا أستطيع أبداً أن أتأخر عن إبداء حزني كما الجميع لرحيل علميْن من أعلام الشعر والأدب العربي المعاصر؛ الأول هو الشاعر والسياسي والديبلوماسي الشهير غازي القصيبي، والثاني هو أحد رواد النهضة الفكرية في الكويت الشاعر أحمد السقاف، إنه الثلث الأول من شهر رمضان الذي احتضن بالرحمة هذيْن الشاعريْن بعد أن أوْدَعا في مكتبتنا العربية أثمن الودائع وأجلَّ الأمانات لتبقى تلك المؤلَّفات ثروة متجددة في أيدينا وأمانة يجدر الانطلاق بها ومعها نحو المستقبل.
*
ربما هي خطوة دولية استدرجتْ الزعيمَ الديني حسن نصرالله ودعته للحديث عن جانبٍ مهمٍ في عرضه لقرائن يستدل بها على احتمالية ضلوع إسرائيل في جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري، ليصبَّ ذلك في مجرى تبرئته للحزب من اتهام ظنيٍّ له، وقد وضَّح جانباً أسماهُ سرياً كشف عنه في أسلوب حصوله على الصور التي تفضحُ اختراقَ إسرائيل للأجواء اللبنانية والتجسس فيها، وأماط بذلك اللثام عن قدرات متطورة لـ laquo;حزب اللهraquo; في طريقةٍ من طرق المراقبة والحصول على المعلومات... فهي رسالة منه ذات لونيْن: اللون الأول يتلخص بأن لـ laquo;حزب اللهraquo; القدرة التكتيكية ذات الأمد البعيد برصد المعلومات وإحصاء القرائن بسياسة طويلة المدى ربما أطول من مدى صواريخه، ولعله لم يكشف هذه الطريقة في الحصول على المعلومات إلا بعد الاستغناء عنها واللجوء إلى غيرها أو تطويرها، واللون الثاني الذي نلمسه من كشف الأمين العام لـ laquo;حزب اللهraquo; لبعض قدرات الرصد والمتابعة لديه يتلخص بأن مزيداً من الغموض يمكننا أن نضيفه أمام أعين إسرائيل وعموم أجهزتها الاستخباراتية تجاه هذا الحزب، إنها منذ البداية حرب معلومات مبنية على التمويه والاستدراج؛ فأكثر ما يزعج إسرائيل من laquo;حزب اللهraquo; هو غموض هذا الحزب في نظر أجهزتها، فما يعرفه laquo;حزبُ اللهraquo; عن إسرائيل من معلومات أدقُّ مما تعرفه إسرائيلُ عن laquo;حزبِ اللهraquo;، وهذه المعلومات موضع قوة للحزب من جانب وهي نفسها نقاط ضعف لإسرائيل من جانب آخر، فليست الصوايخ التي أطلقها laquo;حزبُ اللهraquo; على إسرائيل، أو يُتَوقَّعُ إطلاقُها مستقبلاً، هي ما يقلق إسرائيل، وإنما الأهداف التي ينتقيها laquo;حزبُ اللهraquo; في ضرب شمال إسرائيل، وكيفية رصده، واختياره المبني على معلومات دقيقة هي ما يقلق إسرائيل، تماماً كما كانت إسرائيل قلقة بل لا تنام بسبب اختراقٍ حقيقي لكيانها الأمني يومَ كان للفصائل الفلسطينية عمليات فدائية في العمق الإسرائيلي؛ كانت حينها إسرائيلُ تضربُ أخماساً بأسداس بسبب قوةٍ معلوماتية سرية تمارسها laquo;فتحraquo; وlaquo;حماسraquo;، وغيرهما، تجاه إسرائيل، لأن القوة والضعف أمران مرتبطان بالمعرفة والجهل؛ فالقوي هو مَنْ مَلَكَ زمام الحصول على المعلومات بل الدقة في المعلومة، والضعيف أو المتردد دائماً هو ذلك الذي لا يجيد الحصول على المعلومة أو يحصل على معلومات مغلوطة، لذلك في أعوام سابقة لم تكن جيوش دولنا العربية المتزاحمة حول إسرائيل قادرة على مواجهة متكافئة معها بسبب أن إسرائيل لديها أسلحة أميركية ونحن نحمل السلاح السوفيتي! لا ليس هذا هو سبب ضعفنا! بل سبب ضعفنا المستمر حتى إشعار آخر هو أن إسرائيل تعرف عنا كل شي، أما نحن فلا نعمل للوصول إلى المعلومات، وإن وصلتنا لا نجيد الاستفادة منها ولا نحفظُ سِرّاً، إن مسألة الحصول على المعلومات والاعتماد عليها واستخدامها كشواهد للاستدلال، أو معطيات لاتخاذ قرار ما، عند السياسيين والموثِّقين والمثقفين والمصلحين وعند رجال الدين والدعاة أيضاً أمر تقتضيه مهام هؤلاء بشكل دقيق، فما نقبله من عموم الناس من تسرُّع في الحكم على الأمور لا يُقبل من رواد المجتمع وصفِّه الأول، حين أعلنت سعاد حسني قبل رحيلها في حوار لها مع الإذاعة البريطانية أنها تنوي كتابة مذكرات عن حياتها ونشرها في كتاب كان الموت أسرع بعد سقوطها من شرفة الشقة التي تسكنها بلندن، وتضاربت الأقاويل حول حقيقة وفاتها، وفي تلك الفترة أكد اللواء فؤاد نصار رئيس المخابرات العامة السابق في مصر لما كان يتردد حول تعامل سعاد حسني مع جهاز المخابرات أنها كانت تحمل رتبة رسمية في جهاز المخابرات! وبلا شك للقضاء واجبُ التحقُّقِ من سقوطها من الشرفة ثم الْحُكْم، ولذويها الحقُ في الحديث عنها فَهُمْ أولياء دمها، فلم يُفوِّضِ الدينُ أو القانونُ أحداً للحديث عن خاتمتها أو نواياها مُنَصِّباً نفسه حَكَمَاً أو مُتَحكِّماً بمصائر الناس؛ وربما يتجاوزُ أحد لِيَحكم على الراحلين منهم وقد أفضَوْا لما قدَّموا من عمل؛ ولعله بكلامه ووعظه يُدخل إنساناً الجنة ويُدخل آخَرَ النار، كفانا استهلاكاً للمفردات في الترويج لقدراتنا الذاتية باسم الدين أو الفكر، وتلميعاً لشخصيّاتنا المبنية على فلسفة الأفضلية على الآخر، وكفانا تبجحاً في شهرٍ كريم يدعونا لمواجهة أنفسنا قبل التصدُّر لإصلاح الآخرين، ونحن غارقون في أخطائنا! لا أعتقد أن شخصاً قد يئس من الحياة يُعلن أنه سيكتب مذكراته، بل على العكس من يقرر كتابةَ مذكراته يعني أنه يملك دوافع قوية للاعتراف ولإثبات الحقائق وتسجيل الأحداث بكل ثقة وقوة، وليس للاختفاء أو للاندفاع نحو الانتحار! يلزمنا الانتباهُ لِجُملة من أنماط التفكير المبنية على التوازن، والالتفات إلى جُملة من الأخلاق المرتكزة على التواضع، وعدم الاستعلاء على الناس، والأخذ بتدريباتٍ تعتمد على الدقة في الاستدلال بالمعلومات؛ والحذر كلَّ الحذر أنْ تأخُذَنا نشوَةُ الانسياق مع ما نعتقد به مُتجاهلين فكرَ الآخرين، أو مُشكِّكين بنواياهم، أو مُقَرِّرين مَصائِرَهُم! ونحن بشر لسنا أفضل منهم.