علي سعد الموسى

أمريكا تروج لنفسها بصورة تدعو إلى الإحباط ونحن في محل الفرجة. ولكي تكتشف الحقيقة الصادمة عن واقع هذا العالم بدون أمريكا لا تكتف بمجرد اللعنة. العالم بدون أمريكا سيعود قرناً كاملاً للوراء

لا تتقاطع ndash; أمريكا ndash; معك في مجرد الكراهية مثلما لا تستطيع أن تمحوها بمجرد اللعنة. وبالطبع يخفي وجه أمريكا ndash; السياسي ndash; عشرات الوجوه لأمريكا المختلفة، وهل سأصدمك حتماً بالقول إن وجوه أمريكا الخفية هي ما يحرك حياتك ويجعل منها أكثر يسراً وسهولة؟ خذ مثلاً أن أمريكا هي حبة الدواء التي تتناولها، وأمريكا في هذه ndash; الحبة ndash; العلاجية هي 70% من الوصفة الصيدلانية لأي عقار علاجي، لا لأنها تسيطر على ثلثي سوق الدواء العالمي، بل لأنها ثلثا المحركات البحثية والمعملية في صناعة الأدوية والكيمياء الصيدلانية. خذ مثلاً أن أجود أنواع ndash; الأنسولين ndash; اليوم هو المنتج الدنماركي، ومع هذا يعود الفضل إلى ثلاثة باحثين طوروا اكتشافه في ثلاث جامعات أمريكية. خذ بالقياس محاليل التخدير وفكرة ndash; البنسلين ndash; وتقنية العلاج الإشعاعي. خذ فكرة غسيل الدم ولا تنتهي عند حبة ndash; البروزاك ndash; لمرضى الاكتئاب، ولكن تمعن في الحقيقة الأخيرة التالية: تسعة من كل عشرة مرضى في الكرة الأرضية يتناولون وصفة الدواء (أي دواء لأي مرض) وهم يعلمون أو لا يعلمون أن الفكرة الأولى لهذه الأقراص العلاجية ابتدأت من معمل أو مختبر أمريكي. بدأت من فكرة تجريبية لبحث عالم أمريكي. اقرأ خارطة نوبل للفائزين في الطب والعلوم لتقرأ هيمنة أمريكا الساحقة، ثم اقرأ السؤال بالمقلوب: كيف يكون العالم بدون أمريكا؟
أنا لم أكتب من العبث ولا من أجل استفزاز العنوان. تأسرني الحقيقة التي أعرفها حتى من قبل أن أقرأ هذه الحقيقة. يشير تصنيف شنغهاي لجامعات العالم إلى أن أمريكا وحدها تستأثر بثمان جامعات في قائمة العشر الأول. تستأثر بـ(38) جامعة من ضمن أفضل الخمسين وبـ(54) جامعة من بين المئة الأول على ذات التصنيف. أمريكا بالمجاز، وطبقاً لهذا التصنيف، تستأثر بثمانية أعشار العالم الأول وأربعة أخماس العالمين الأولين وأكثر بمراحل من نصف العالم بأسره. أنا لا أروج لأمريكا، لكن أمريكا تروج لنفسها بصورة تدعو كل ما هو (غير أمريكي) إلى اليأس والقنوط. إلى الإحباط ونحن في محل الفرجة.
ولكي تكتشف الحقيقة المستفزة الصادمة عن واقع هذا العالم بدون أمريكا لا تكتف بمجرد اللعنة. العالم بدون أمريكا سيعود قرناً كاملاً للوراء بهذه الحسبة البسيطة: هب أن التقدم التقني العلمي الذي وصل إليه الإنسان في قرن من الزمن ينهض أمامك مثل عمارة شامخة. انزع من البنيان كل طوبة أمريكية في هذه البناية. كل طوبة تمثل بحثاً أو اختراعاً أو تجربة أو منتجا. سوف تكتشف تماماً أنك لم تنزع الطوب الأمريكي في البنيان فحسب، بل حتى نصف كل طوبة شاركت بها بقية الأمم. السيارة اليابانية فكرة ميكانيكية أمريكية. شرائح ndash; التشيبس ndash; الإلكترونية المصنعة في الهند مجرد شراء لحقوق فكرية من وادي السيلكون الكاليفورني. نوكيا السويدية تطور هائل لتطوير فكرة الجوال التي نشأت في معامل شركة اتصالات أمريكية. حبة الفياجرا بدأت كتجربة على الدورة الدموية لمريض أمريكي. نحن سادس لغة من حيث عدد المتكلمين ولكننا خارج قائمة العشرين لأكثر عشرين لغة تداول على الإنترنت. وبسبب أمريكا (تحاشياً أن نقول بفضلها) تكتسح الإنجليزية 65% من كل الصفحات الإلكترونية، وكل هذا لأن المخترع لا بد أن يكون السباق إلى المنتج. تأمل هذه المصطلحات التي لا تستعصي على التعريب فحسب، بل على القولبة والتحوير إلى كل لغات الأرض، حيث كل لسان على الأرض يستخدم الاسم الأمريكي: الإنترنت. جوجل. يوتيوب. ياهو. ميكروسوفت. نيستا. فيس بوك. تويتر. تلك كلها ليست مجرد أسماء لمخترعات. إنها قبائل العالم الجديدة. إنها شعوب القرن الحادي والعشرين حيث كل قبيلة وكل شعب من أبناء هذه المصطلحات يصطفون على أبواب ndash; الهوية ndash; الجديدة بالملايين في الثانية الواحدة. تأمل آخر هذه القبائل الوليدة من رحم (face book) حيث عدد أفراد القبيلة العولمية حتى اللحظة يناهز 430 مليون فرد، منهم مليونان ومئتا ألف سعودي حتى اللحظة. ومن كان يفتقد إلى مفردة أو قاموس للشتم فسأهديه تطوعاً ما شاء من قاموسي لشتم الكابوس الأمريكي. قبل أن تشتم أمريكا تساءل عن تقاطعاتها معك في الأكل والصحة والاتصال. اطرد من حياتك كل جهاز تعتقد أن في جسده شبهة مسمار أمريكي، ثم اكتشف أنك ستعود للوراء قرناً كاملاً. للحياة إلى ما قبل الأجهزة.