عاطف الغمري

كثيراً ما رددت الألسنة هنا أو في دول أجنبية هذا السؤال: كيف سبق المصريون العالم قبل آلاف السنين في إقامة أول دولة مكتملة الأركان في التاريخ، وكيف صنعوا حضارتهم بأدوات هذا العصر الموغل في القدم، والتي يخفق التقدم العلمي المعاصر عن الإتيان بمثلها؟

والإجابة عن السؤال تأتي في سياق مناقشة ما تحوّل إلى نوع من المسلمات، بأن المصريين اعتادوا على أن من يحكمهم فرعون، يكونون له خاضعين مستسلمين . أما عن التقدم العلمي، فالشواهد تقطع بأن ما تحقق حضارياً، كان مشاركة للحاكم الفرعون، من مواطنين بلغوا هم كأفراد ومجتمع أرقى مراتب العلم والثقافة والمهنية .

وقبل أن أرجع إلى واحد من المؤلفات الأجنبية المهمة، فإنني أستخرج من الذاكرة المشهد الآتي:

في عام ،1998 كنا ذاهبين إلى متحف المتروبوليتان في نيويورك لنشهد عرضاً لمجموعات من القطع الأثرية المصرية، جمعت من متاحف متعددة في دول أجنبية، وكان عنوان العرض هو ldquo;5000 سنة من الحضارة المصرية في فترة من أزهى عصور تقدمهاrdquo;، توقفنا في مدخل صالة العرض أمام تمثال لمواطن مصري متوسط القامة بثيابه العادية، وعرفنا أن اسمه ldquo;حم إيونوrdquo;، وهو المهندس الذي صمم هرم خوفو والمسؤول عن بنائه .

كان هذا الرجل والمعروضات المنتقاة في المعرض تجيب عن السؤال: كيف بنى المصريون الأهرامات وبقية معالم حضارتهم، في عصر لم تكن الدنيا فيه قد عرفت التقدم العلمي؟

كان المعرض بإجمالي ما فيه يجسد الحالة المعيشية المصرية في هذه العصور، فكلها تضم نماذج تنطق بالنهضة والتقدم في كل فروع الحياة، في المعرفة، والعلوم، والطب، والهندسة، والفنون التشكيلية، والأدب، والفلك، والكيمياء، والتحنيط، والمهارات العالية للأيدي العاملة من الحرفيين، كل ذلك يحتويه مشروع قومي للتقدم والنهضة، انخرط فيه الجميع أفراداً وجماعات ودولة .

لم تكن الحضارة من فعل الفرعون وحده، مهما كان دوره ومكانته، بل كان من عمل الناس في محيط نهضة، رأسها الفرعون الملك .

إن كثيراً من المؤرخين الأجانب الذين تعمقوا في الغوص في عمق الحياة المصرية، ورصد تفاصيلها، لاحظوا أن المصري الذي أبدع هذه الحضارة كان مواطناً حراً، منتجاً، مبدعاً آمناً قادراً على التعبير الحر .

وهنا أرجع إلى كتابة تاريخ العالم القديم Ahistory of the ancient world للمؤرخ شيسترغ ستار أستاذ التاريخ بجامعة ميتشغان، والذي أصدرت منه جامعة أوكسفورد طبعات عدة في أعوام: ،1965 و،1974 و،1983 و1991 .

وفي كتابه (من 742 صفحة) يقول ستار Starr: إن أبرز مظاهر الحضارة المصرية القديمة تمثلت في الفنون التي تصنعها القدرة على التعبير، ويمكن أن نلمس ذلك في الكتابات الأدبية التي تركها قدماء المصريين، وفي إبداعاتهم في قطع الأثاث، والفازات، والمجوهرات، وفي نماذج التحف التي عثر عليها في مقابرهم، والتي صنعت من الأحجار، والعاج، والزجاج، ومن مواد أخرى، بأيدي عمال لديهم المهارة والصبر، والذين تفوقوا في تقنيات أعمالهم، فضلاً عن تفوق في المهارات الهندسية، وفي الفنون التشكيلية، والتماثيل، حتى أننا نجد أمامنا ثقافة مصرية عمرها أكثر من 5000 عام، كان المصري فيها يشعر بالأمان والاستقرار .

ويقول ستار: عندما أبحر المؤرخ اليوناني هيرودوت من بلاده التي كانت فقيرة، ليزور مصر، فإنه انبهر بما رآه في مصر من حضارة، والتي جعلته يطلق المقولة التي صارت مثلاً حتى اليوم وهي: مصر هبة النيل .

ويصل المؤلف إلى نهاية عصور الحضارة المصرية، ويقول إن انحدارها كان راجعاً لأسباب داخلية، أكثر منه نتيجة ضغوط خارجية، بعدما تراجع الإبداع الخلاق، وحل الإحباط والسلبية، محل التفاؤل والمرح، ولم تعد لديهم رؤية شاملة متكاملة للحياة .

إن التقدم والنهضة ليسا مشروعاً فوقياً، لكنهما انتفاضة جسد أمة، ينبض بالحيوية، وتتدافع في شرايينه كل الدوافع والمحفزات على الصعود، وتحركه قدرات متراكمة في التعليم، والعلوم، والزراعة، والصناعة، والفنون، والمهارات المهنية، في مناخ من الأمان والحرية، حيث إن هذه العملية التكاملية، هي التي تأخذ بيد الأمة، وتعبر بها الحواجز والصعاب، وترتقي بها إلى أعلى مراتب القوة، والقدرة، والمكانة، والنفوذ .

وإذا كانت دول عديدة في عصرنا الحالي، قد حققت قفزات هائلة نحو التقدم، فإنها نجحت في ذلك حين عرفت الأساس الذي تبنى عليه وتبدأ منه، وهو المشروع القومي، بالمعنى العلمي، والمحدد الهدف، والمتكامل الأركان، فمن الواضح أن هذه الحقيقة ليست اختراعاً عصرياً، لأنها هي ذاتها التي بنى قدماء المصريين حضارتهم على أساسها .