ياسر سعد


إذا كان وصف ما تفعله السلطة الفلسطينية ومنذ سنوات عجاف بالعبث السياسي، فهو لمصلحة المحتل بإعطائه الوقت اللازم لاستكمال خططه ومخططاته لتهويد القدس، وتمزيق الضفة استيطانا واستعمارا، وإظهاره دوليا بمظهر الحريص على السلام في الوقت الذي يوغل في التوحش ويشدد حصار الإبادة على قطاع غزة. فإن كلمة العبث لم تعد لتفي بوصف مواقف السلطة وتصرفاتها التي بدت أقرب إلى المجون السياسي الذي لا يعرف محرمات ولا حرمات ولا العيب أو حتى الحد الأدنى من السلوك الإنساني بكل المعايير.
ها هي المفاوضات المباشرة تعود، وفي الثلث الأخير من رمضان وبعد استئناف غير المباشرة منها على الرغم من الوعود والوعيد الذي سمعناه مرارا وتكرارا من رموز السلطة والتعهدات التي قطعوها على أنفسهم وما كانت إلا للاستهلاك الشعبي ليس إلا. فما الذي تغير وما الذي تبدل على أرض الواقع وما الذي أُعطي للمفاوض الفلسطيني حتى يساق إلى واشنطن، كما تساق الشاة إلى المسلخ؟
الذي حصل هو الإقرار والموافقة الضمنية على المواقف الإسرائيلية التي ترفض تماما -لا أقول تجميد الاستيطان- بل وحتى التخفيف من نهمه الذي لا يعرف الحدود، ومع تصريحات ليبرمان التي تتحدث عن صعوبة إن لم يكن استحالة إقامة الدولة الفلسطينية ومع التشديد الإسرائيلي المدعوم أميركيا على يهودية الدولة العبرية، وهو موقف يرشح لعودة طرح الوطن البديل عمليا وتفاقم أزمة لاجئين جديدة في الأفق بعد أن بلعت السلطة الفلسطينية بشكل أو آخر مسألة ملايين اللاجئين وأبطلت بتصريحات أبومازن وفياض ndash;بشكل أو بآخر- حق العودة من خلال واقعيتها بائسة.
في 21 يوليو الماضي قال أبو مازن في خطاب أمام المجلس الثوري لحركة فتح: إنه لا يريد الذهاب إلى المفاوضات المباشرة كالعميان، مؤكدا أن الجانب الفلسطيني لم يتلق حتى الآن أي ردود إسرائيلية على أسئلته في قضايا الحدود والأمن، رابطا بين الانتقال إلى المفاوضات المباشرة، وتلقيه ضمانات واضحة من الإدارة الأميركية حول موقفها من مسائل الاستيطان والحدود والقدس وهدف المفاوضات وسقفها الزمني. وأوضح عباس أنه لم يتلق حتى الآن سوى laquo;رسالة من الرئيس الأميركي باراك أوباما لم تكن واضحة في ما يتعلق بحدود الدولة الفلسطينية ووضع كل من الضفة وغزةraquo;، فيما كشف عن تعرضه لضغوط شديدة وصعبة من أجل القبول بالذهاب إلى المفاوضات المباشرة، غير أنه أكد لأعضاء المجلس الثوري أنه سيقاوم كل هذه الضغوط مسنودا بموقفي مصر والأردن المؤيدين للموقف الفلسطيني في رفض الذهاب إلى مفاوضات مباشرة دون وقف الاستيطان وإعطاء ضمانات واضحة وحقيقية.
وبالعودة إلى تصريحات أبومازن التي تعوّدنا وتعود المواطن الفلسطيني معنا على رؤية الرجل ورفاقه وهم يلحسونها ويبلعونها وبشكل مهين، ومع تكاثر الحديث عن ضغوط أميركية شديدة، ضغوط تُسرب مصادر السلطة أنها مادية وذلك بوقف المساعدات عن سلطة تعتمد في حضورها الفلسطيني وبشكل أساسي على العامل المالي، وهو ما عبر عنه سلام فياض بشكل غير مباشر حين حذر من أن الوضع المالي للسلطة الفلسطينية laquo;غاية في الصعوبةraquo;. هذه الأمور تطرح تساؤلات تحمل في طياتها إجاباتها، ففيما يتعلق بالراعي الأميركي الذي يهدد ويتهدد الطرف الأضعف لسوقه للمفاوضات المباشرة، هل الطرف الأميركي وسيط في المفاوضات أم راعٍ وحليف وداعم بلا حدود للاحتلال ولمظالمه؟ وهل تصلح مثل هذه السلطة ورئيسها للتفاوض حول مستقبل الشعب الفلسطيني والمقدسات الإسلامية التي تتعلق بها قلوب ملايين المسلمين؟ وإذا كانت السلطة عاجزة عن مقاومة ضغوط العودة للمفاوضات، فهل هي قادرة على مواجهة أية ضغوط خلال مراحل الحل النهائي، هذا إذا أجريت؟!
إن قضية بأهمية فلسطين وقدسيتها وموقعها الديني وبعدها الإنساني، أكبر وأعظم من أن تترك لمجموعة يغلب على صورتها الفساد وروائح العمولات والصفقات، وبالتالي من حق تلك القضية على سياسي الأمة ومفكريها ومثقفيها أن يقفوا منها الموقف المطلوب، وأن يصفوا الأمور بأوصافها الطبيعية ويسموا الأشياء بمسمياتها الحقيقية. إن سلطة تلاحق المقاومين وتعرضهم لأشد أنواع التعذيب والتنكيل، وتحاول شراء المناضلين من كتائب الأقصى بالمراكز والرواتب، وتنسق أجهزتها مع الاحتلال للسهر على أمن المستوطنين ورفاهيتهم ولو على حساب مآذن مساجد الضفة، وتعيق أي جهد لإدانة الاحتلال كما حصل في تقرير غولدستون وغير ذلك، هي في واقع الأمر سلطة تقوم على خدمة الاحتلال وهي أسوأ من ميلشيات لحد وأبشع من روابط القرى. أوَليس من البؤس والغبن بعد ذلك وقبله الحديث عن مصالحة فلسطينية حين يكون أحد الأطراف مقاوما والثاني مقاولا؟!