السيد ولد أباه


تميز المفكر الكويتي الراحل مؤخراً quot;أحمد البغداديquot; بأنه كان يقول دون مواربة إن التحول الديمقراطي المنشود عربياً لن يتحقق من دون دفع الاستحقاق المعرفي والمجتمعي للعلمنة كنظام قانوني ومؤسسي لتسيير الحكم وتحديد علاقة السلطة السياسية بالدين.

لقد اعتبر البغدادي أن الكثير من الكتاب الليبراليين العرب يمارسون quot;التقيةquot; عندما يخفون نزوعهم العلماني بمقولات مثل quot;التسيير العقلاني الحداثي للدولةquot;، أو الاكتفاء بالشعار الديمقراطي دون استتباعاته التلقائية التي تتمحور حول خيار العلمنة.
بيد إن ما فات البغدادي هو الوقوف عند نموذج العلمنة المطلوب، باعتبار أن هذا المفهوم خضع لتحولات متعددة، كما اختلفت أشد الاختلاف سياقات تحققه. والمفارقة البادية للعيان هنا، هي أن الفكر السياسي الغربي مشغول في أيامنا بالظاهرة التي أطلق عليها الفيلسوف الألماني quot;هابرماسquot; عبارة quot;المجتمعات ما بعد العلمانيةquot;.

ولا تعني هذه العبارة أن الدين رجع للحقل العام محدداً بنيويا للشرعية وللحكم بعد أن أقصي منه منذ القرن الثامن عشر، وإنما تعني أن التمييز بين فردية الاعتقاد وشمولية المجال العام، (التي هي أساس العلمنة)، لم تعد اليوم قابلة للاستمرار.

بيد أن الدين لا يعود للشأن العمومي كقوة مهيمنة، فلم يعد من المطروح في الغرب أن يستعيد وظائفه التشريعية والمجتمعية السابقة نتيجة لما يسم المجتمعات الحديثة من أثر التعددية العميقة، إنما تتجلى عودته في الحاجة إلى معين رمزي للقيم الفردية والجماعية التي يتعلق بها منظور quot;العيش القويمquot;.

فالحداثة العلمانية قامت على خلل مبدئي لا تبرير له هو توهم القدرة على الفصل داخل الوعي الإنساني بين التصورات القيمية القصوى (مفهوم الخير الجماعي)، والأطر الإجرائية الضابطة للمجال العام. فبأي حق يرغم المواطن على إقصاء معتقداته الذاتية للتكيف مع حقل عام من دون سقف معياري؟

وإذا كانت الإيديولوجيات الوضعية، قد حجبت لمدة طويلة هذا الخلل المرجعي، فإن انتكاسة هذه الأيديولوجيات وتحولها اليوم إلى نزعات طبيعية راديكالية تنزع إلى إلغاء حرية الإنسان وكرامته بحجة تحسين النوع الإنساني بيولوجياً، فإن الثغرة لن تسد راهناً دون تكريس حق المعتقدات الدينية في الرجوع إلى الحقل العام دون أن تكون لها القدرة على احتكاره.

يلاقي هذا التصور الذي تدافع عنه وجوه فلسفية كبرى من نوع quot;هابرماسquot; والفيلسوف الكندي quot;تشارلز تايلورquot; (في كتابه الأخير عصر العلمنة) والمفكر والاقتصادي الهندي quot;امارتيا سنquot; قبولاً واسعا في الدراسات الاجتماعية والسياسية حول نظام العلمنة في المجتمعات الغربية، بتشخيص حالة المؤسسات الثلاث التي قام عليها هذا النظام وهي: الدولة القومية المركزية والأمة والمدرسة (التي أنيط بها توحيد الوعي الجماعي). فهذه المؤسسات الثلاث تعاني أزمة حادة، في مجتمعات ينخرها بقوة التعدد الثقافي في حديه الأفقي (تعددية أنماط العيش المشكلة لهويات مجموعاتية متمايزة) والعمودي (التعددية العرقية والدينية). فمسار ما كان يطلق عليه quot;التأليف الجمهوريquot;، وصل إلى نقطة التأزم القصوى، مما فرض على العقل السياسي نفسه إعادة النظر في ثوابته الكبرى.

إلا أن هذا الحوار الغربي الداخلي غير قابل للتمديد في مجالنا العربي الإسلامي الذي يشهد تحولات وتحديات مغايرة، وإن كان من الضروري استحضاره في بلورة السياسات والمقاربات إزاء المسالة الدينية ndash; السياسية.

في هذا السياق، لا بد من الانطلاق من معطيات ثلاثة أساسية لتأطير السجال الدائر عربياً بين دعاة الدولة الدينية والدولة العلمانية.

أولاً: يتعين التمييز بين مساري quot;الدنيويةquot; secularization وquot;العلمنةquot;laicity اللذين كثيراً ما يتم الخلط بينهما. فالمسار الأول هو التعبير عن تراجع حضور الدين في المجال العام، بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي والقانوني المتعلق بتسيير المسألة الدينية ndash; السياسية. وأما المسار الثاني فهو إطار قانوني وتشريعي يحصر الدين في مجال المعتقدات الفردية. فالدول الاسكندينافية مثلاً ليست دولا علمانية بالمعنى الضيق لأنها تنص على ديانة رسمية للدولة، وإنْ كانت نسبة التدين فيها محدودة، في حين أن الولايات المتحدة الأميركية دولة علمانية وإنْ كانت شديدة التدين شعبياً.

وما يهمنا هنا هو التنبيه إلى أن البلدان العربية بمجموعها تحافظ على بنية دستورية وتشريعية حاضنة للدين في المجال العمومي، لكن مسار الدنيوية متسارع فيها، وأثر التعددية بارز فيها،حتى وان كان ليس له بالضرورة انعكاس على نسبة الإقبال على التدين الشخصي الذي لم يعد في الغالب له أثر على الخيارات السياسية والمجتمعية .

ثانياً:إن التدين بما هو كسب إنساني (يختلف عن الدين كوحي ورسالة إلهية) يتغير بحسب السياقات الاجتماعية، فتتبدل نظمه المؤسسية وتقاليده الموروثة، دون أن تتبدل ضرورة ثوابته العقدية وقيمه المرجعية. والسؤال المطروح اليوم على الفقهاء هو بلورة ما دعاه quot;طارق أوبروquot; بشريعة الرشد الإنساني التي تراعي سياقات التدين الجديدة من ذاتية وتعددية وكونية إنسانية، بما يفرض إبداع فقه جديد يناسب الدولة غير العقدية المعاصرة، على أن يظل الدين المعين الرئيسي للقيم وللتصورات القصوى للخير والوجود.

ثالثاً: ليست الحالة الليبرالية على عكس التصورات السائدة دولة عقدية بمنظور علماني ملازم لها. فما بينته دراسات quot;أمارتيا سنquot; الأخيرة هو أن كل الثقافات الكبرى قادرة على استيعاب القيم الليبرالية الأربع التي هي الحرية والمساواة والتضامن والتماثل ضمن نسيجها الحضاري والمعياري. إلا أن هذا الاستيعاب يتطلب دون شك جهدا كبيراً، لا يزال الفكر العربي الإسلامي في بداياته الأولى.

ليس المطلوب هو الانتقال من الحالة الدنيوية القائمة إلى نمط من العلمنة القانونية والتشريعية لتثبيت المنظومة الديمقراطية المنشودة. فالعائق ليس من الدين الذي لم يعد في واقع الأمر محدداً للشأن العمومي في أي من بلداننا، كما أن التشريعات العلمانية لن تقصي بالضرورة الدين من المجال العمومي (الحالة التركية مثالًا). ليس الخطر إذن في الدين وإنما في تحول السياسة التي هي شأن بشري إلى دين مطلق.