عبدالله بن سعد العبيد

كتبت سابقاً عما نعانيه اليوم من هاجس التوصيف القاتل الذي يؤدي في كثير من أشكاله إلى تحطم الشخصية وانعزال وانطواء صاحبها أو من تم وصفه بصفات ليس به بخلاف ما يؤدي ذلك بالعامة لفهم

مضمون الوصف والشريحة التي تم وصف شخص بانتمائه لها، يؤدي ذلك بالعامة للفهم الخطأ وتبدأ مرحلة جديدة من انتقال المفهوم الذي وصل خطأً إلى شرائح أخرى ويتداول الناس بعدئذ تلك الأوصاف ويلصقونها بأي شخص وبأي مكان. وأصبح كل من أراد ارتكاب ما يخالف الطبيعة يزعم بتفاخر انتمائه لليبرالية التي يظن أنها تحميه وتكفل له تقبل الطرف الآخر لما يفعله. لذلك ولعدم فَهْم الكثيرين لليبرالية الحقة اتخذوها مطية لتمرير أفعالهم بغية الحصول على قبول اجتماعي أو تبرير ما يرتكبونه من أخطاء.

وقد قلت إن في الجانب الآخر، وعند أتباع التيارات الأخرى، المتشدد منهم والمتزن، وبسبب عدم فهمهم للفروقات الكبيرة بين التيارات الفكرية، يشنون حروبًا ضروسًا على كل من يخرج بفعل لا يتوافق ومنهجياتهم ويطلقون عليه ما يحلو لهم من صفات ويتبّعونه لأقرب مدرسة أو فكر يكون اسمها حاضراً في أذهانهم في تلك اللحظة؛ الأمر الذي لا يولد لدى من تم نعته بتبعيته لمنهج معين كرهاً تجاههم فقط بل قد يدفعه ذلك لمعرفة التيار الذي وُصف بتبعيته له وتعمقه في دراسته ومن ثم قد ينتهجه.

وتطرقت بعد ذلك لنشوء الليبرالية وأسباب ازدهارها في وقتها وكيف هي مختلفة كلياً عن العلمانية التي تنادي بفصل الكنيسة عن الدولة حتى لا يتم صبغ أي قرار سياسي بصبغة القدسية؛ وبالتالي لا يمكن مناقشته أو رفضه.

إلا أن شرحي ذلك لم يرق لكثيرين ممن كالوا التهم جزافاً والنقد أحادي النظرة، وحتى يتم توضيح الأمر أكثر فقد قدمت لهذا المقال بفقرتين من مقالي السابق محاولاً تبيان الفرق بين الليبرالية الحقيقية والعلمانية التي ناشدت كما أسلفت بفصل الكنيسة عن السياسة أو الدولة. بينما الليبرالية وهي التي خرجت من رحم العلمانية عملت على تحرير العقل من القيود المطلقة ضمن إطار من الثوابت العقائدية، وإن كان عدد من معتنقيها طالبوا آنذاك بضرورة انتهاجها لخطى العلمانية في الفصل بين الكنيسة والدولة.

لدينا نحن المسلمين، لا يوجد كنائس، ولا يوجد رجال دين. فالجميع مسلمون والجميع رجال دين والمسجد لا سلطان له على أحد إلا بقدر الإرشاد والتوجيه والتربية والعظة. وعلماء الدين لا يستمدون وجودهم أو كلامهم من خصوصية مقدسة أو معصومة، كما هي الحال بالنسبة لرجال الدين المسيحيين، ومن ثم فلا مسوّغ للفصل بين المسجد والدولة، ولا تنحية علماء الدين عن ممارسة شؤون الحياة بما فيها السياسة.

لم يكن نشوء الليبرالية من أجل إطلاق التصنيفات على الأفراد ولم يكن أيضا من أجل استخدامها ذريعة لتمرير التصرفات غير المقبولة اجتماعياً أو أخلاقياً أو عقائدياً، بل إن الليبرالية الحقيقية انطلقت من حقيقة رئيسة مفادها أن الليبرالية الغربية كانت قد نشأت في ظل ظروف سياسية واجتماعية خاصة، وأنها ظهرت كرد فعل للاضطهاد الكنسي للعلماء من جهة، وللاستبداد السياسي والاقتصادي من قبل النبلاء والإقطاعيين من جهة أخرى، وعبر تحالف السلطتين الدينية السياسية والإقطاعية التي تمكن من خلالها رجال الدين المسيحي من فرض سلطانهم على العقلية العلمية ما دفع الليبرالية إلى المناداة بإطلاق حرية العقل في التجريب والملاحظة بعيداً عن المسلَّمات الأولية المتناقضة في النصوص الدينية، ولم يكن ذلك يعني التملص من الإيمان الديني كما هو عند معظم أتباع المدرسة العلمانية، بل كانت حركتهم موجهة نحو تخليص العقل من سلطان الكنيسة لعدم إمكان الجمع بينهما، وبالتالي عزل الإيمان الغيبي (الميتافيزيقا) عن الواقع التجريبي المحسوس؛ ما يعني أن حركة التنوير الأوروبية قد قامت وفق تسلسل مرحلي تلقائي بدءًا من العلمانية ثم الليبرالية وأخيراً الديمقراطية، بحيث لا يمكن عزل أي مرحلة عن الأخرى أو تجاوز اللاحقة منها للسابقة.

مشكلة بعض النخب العربية امتطاؤهم لصهوة أي جواد ينقلهم من حال إلى حال بغية تحقيق مبرر أو مسوغ لتمرير فكر معين ينتهجونه غير مبالين - بقصد أو بدون - بما قد يخلف ذلك من تشويه لهم ولأي فكر يحملونه. إلى لقاء قادم إن كتب الله.