في مارس 1932 انعقد في القاهرة مؤتمر الموسيقى العربية الأول، الذي حضر الموسيقار محمد عبد الوهاب جانباً منه فقط، الأمر الذي جعل المؤتمرين يتهمونه بالتهرب عمداً من المشاركة في بقية الجلسات. لكن الحقيقة هي أن الرجل كان مرتبطاً بالسفر في تاريخ معين من الشهر نفسه إلى العراق لأول مرة لإقامة عدد من الحفلات هناك. وقد صرح الموسيقار وقتذاك بنفسه في حديث له لصحيفة الصباح المصرية. إذ قال رداً على سؤال «لماذا لا تؤجلون سفركم حتى ينتهي المؤتمر؟»: «لأنني وعدت إخواننا العراقيين، ولا أستطيع أن أخلف معهم الوعد، وإذا لم أسافر في هذا التاريخ، فلا يتسنى لي السفر بعده نظراً لحلول الصيف».
وجملة «نظراً لحلول الصيف» وحدها تكشف مدى المخاوف التي كانت تسيطر على الرجل من رحلته العراقية لجهة احتمال إصابته بأمراض جراء صيف العراق الرطب الخانق، خصوصاً وأنه كان يعاني طوال حياته من وسواس قهري.
كانت خطة السفر تقضي بأن يتجول الموسيقار في العراق ويحيي فيه حفلات عدة، ويغني في حضرة الملك فيصل الأول أغنية نظمها صديقه أمير الشعراء أحمد شوقي خصيصاً لهذه المناسبة وهي قصيدة «يا شراعاً وراء دجلة».
لكن ما حدث هو أن عبد الوهاب اختصر زيارته وقرر أن يغادر العراق متسللاً إلى سوريا عن طريق البر.
في تفاصيل ما حدث، قال عبد الوهاب بنفسه إنه حلم بمشاهدة عاصمة الخلافة العباسية وبغداد هارون الرشيد، لكنه شاهد وضعاً «طلعت معه روحه» في إشارة إلى صيف بغداد اللاهب. أما عن زيارته للقصر الملكي فقد قال إنه ذهب إلى هناك لطلب تحديد موعد له لمقابلة الملك كي يطلعه على قصيدة شوقي المهداة له، فقابله تحسين قدري السكرتير الخاص للملك والذي أدخله فوراً على الملك دون موعد، فإذا بالملك جالساً باسترخاء من دون معطف مع ارتداء القبعة المعروفة بـ «الفيصلية». ويضيف عبد الوهاب إنه اتخذ مقعده بالقرب من أحد الحضور الذي سأله عما شاهده في بغداد، فكان رده: «كنت فاكر إني حشوف العباسيين والعز وإسحاق الموصلي، لكني لقيت حر وقرف وتراب... ما أعرفش إيه اللي مقعد الملك هنا».
لاحقاً اكتشف موسيقارنا أن من تحدث إليه وسمع منه رأيه غير المهذب في العراق هو ولي العهد الأمير غازي بن فيصل، فقرر خوفاً وهلعاً أن يغادر العراق بأسرع وقت لأنه «لبخ في حديثه». وهكذا اتفق صاحبنا مع متعهد حفلاته أن يهربوه إلى سوريا، فتم تهريبه مع فرقته الموسيقية في سيارة في الساعة الرابعة فجراً. ولسوء حظه فقد تعطلت به السيارة في الصحراء، ما اضطر معه للنزول والتجول قليلاً ريثما يتم إصلاح الخلل. وهنا كاد أن يقتل على أيدى بعض البدو المسلحين الذين اعترضوا طريقه، لكن المسلحين لما عرفوا أنه محمد عبد الوهاب صاحب أوبريت «مجنون ليلى» مع أسمهان أكرموا وفادته في مضاربهم واستضافوه على الغداء، وهو من جانبه قام بتأدية بعض أغانيه أمامهم رداً لجميل عدم التعرض له ولصحبه.
وصف الباحث العراقي رفعت عبد الرزاق رحلة عبد الوهاب إلى العراق بالفاشلة على المستوى الجماهيري، وعلل ذلك بأن عبد الوهاب لم يكن وقتذاك قد اشتهر بعد في بلاد الرافدين، بعكس ما حدث لاحقاً حينما تم عرض فيلمه الأول «الوردة البيضاء» في دور السينما العراقية. ويخبرنا الباحث بأنه عثر على رسالة موجهة من عبد الوهاب إلى الملك فيصل الأول ومؤرخة في 26 يونيو 1932 (أي بعد شهرين من زيارته) ومحفوظة في المكتبة الوطنية العراقية، يطلب فيها تعيين أحد أقاربه من خريجي مدرسة الشرطة المصرية في سلك الشرطة العراقية، لكن الملك رد معتذراً ومتذرعاً بعدم وجود وظائف شاغرة.
لكن ما سبق ذكره لا ينفي أن العاهل العراقي ابتهج واستمتع بسماع أغنية «يا شراعاً وراء دجلة» وأطرى كثيراً صاحبها وملحنها محمد عبد الوهاب، طبقاً لما قاله الأخير بنفسه في حديث له لمجلة «الكواكب» المصرية في عام 1947م.
التعليقات