عبد الرحمن الحبيب


قال لي: إذا كانت الليبرالية تدعم الدين المتسامح مثلما تقول، فلم لا نكتفي بديننا الإسلامي، لماذا نستورد نظماً غريبة علينا؟ قلت: هذه النظم مستجدات دنيوية وضرورة عصرية لبناء الدولة والمجتمع وليست مستجدات دينية..

نحن نتفق على القاعدة الفقهية التي تقول laquo;الأصل في المعاملات الإباحةraquo;، مستندة بذلك على الحديث الشريف laquo;أنتم أعلم بأمور دنياكمraquo;، إنما الخلاف هو في تحديد هذا الدنيوي. ما استجد من الأمور الدنيوية تراه بعض تيارات إسلامية داخلاً في دائرة الديني، بينما التيارات التحديثية ومنها الليبرالية ترى أنها مستجدات دنيوية تحتاج لنظم وتشريعات مدنية تصب في مصلحة المجتمع والدولة.

شرعية الدولة الحديثة الرشيدة تغيرت وصارت تقوم أساساً على الإنجاز لمجتمعها، أياً كان دستورها أو نظام حكمها المكتوب، فهناك ما ليس مكتوباً، وهو التصورات الذهنية المحفورة في العقول أو ما أطلق عليه ميشيل فوكو النظام الإبستمي (Episteme) أو المعرفي، في دراساته المبتكرة الأحفورية في فحص النظم المعرفية (الوثائق، الخطابات، الصور) ودراسة البنية الضمنية للمعرفة. إنه مقياس الخطأ والصواب دون أن يكون مفكراً فيه أو مدركاً بشكل مباشر.. فقد يكون نظام الأفكار أهم من الأفكار، وما ليس مكتوباً (اللاوعي) أخطر من المكتوب (الوعي)، والغائب في النص أقوى وجوداً من الحاضر فيه!

قسَّم فوكو النظم المعرفية ما بعد القرون الوسطى في أوربا إلى ثلاث حقب كبرى: عصر النهضة والعصر الكلاسيكي ثم الحداثة. فالحداثة ترتكز على الإنسان (إضافة للعلم والعقل)، بينما في القرون الوسطى ترتكز على السلطة المطلقة واللاهوت. إذن، النظام المعرفي الحديث يقوم على الإنسان كمرتكز أول، لذا أصبح سكان الدولة يطلق عليهم شعب وجمهور ينبغي تلبية احتياجاته وتحسين مستوى معيشته، بينما كان يطلق عليهم في السابق رعايا يتبعون الراعي (السلطة) عندما كان النظام المعرفي السابق يقوم أساساً على السلطة الدنيوية والدينية والطاعة المطلقة لهما.

لا ننسى أن هذا النظام مترسب في اللاوعي أكثر مما هو في الوعي، أي أننا نتناول ما نشعر به أكثر مما نتناول ما نعيه. وفي هذا السياق كانت الدولة مطالبة بمسؤوليات محدودة لرعاياها وهي توفير الأمن والقضاء العادل والحد الأدنى من بعض ضرورات المعيشة، وكان الرعايا يتكفلون بباقي شؤون حياتهم. أما في العصر الحديث فتوسعت مسؤوليات الدولة كثيراً وصارت خادمة للشعب، وقادتها مسؤولون عن واجباتهم كتوفير فرص العمل والتعليم والصحة والشؤون البلدية والإسكان؛ وتفرعت مؤسسات الدولة إلى تنفيذية وتشريعية وقضائية، وتشعبت مؤسسات المجتمع المدني في كافة شؤون المجتمع.

من هذا النظام ظهرت مفاهيم جديدة أساسية كلها ترتكز على الإنسان، مثل: حقوق الإنسان، الحرية، المواطنة، المساواة، المشاركة الشعبية، مؤسسات المجتمع المدني، دولة القانون، التنمية، الديموقراطية. لذلك ترى لدينا مثلاً أنه حتى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدأت في الدخول بهذا النظام المعرفي الجديد، عبر عملية تطوير هي في بوادرها الأولى، كاستحداث لجنة لحقوق الإنسان وأخرى قانونية وأخرى إعلامية.. بل قامت الهيئات في المنطقة الشرقية بتوزيع الحلوى في أحد الأعياد..

وبمناسبة مثال الهيئة، يمكن تلمّس أثر النظام المعرفي في الموقف الخلافي الحاد من ممارسات الهيئة ولا سيما في الصحافة الورقية، هو في أساسه بين نظامين في المعرفة: قديم وحديث. الأول يدافع عن الفضيلة كأولوية قصوى بغض النظر عن الإجراءات، بينما الثاني يدافع عن حقوق الإنسان كأولى الأولويات. ورغم أن الطرفين قد يستندان على نفس المرجعية التشريعية إلا أنهما يختلفان بحدة في تفسيرها وتأويلها ومقاربتها، لأن الخلاف ليس على النص التشريعي المكتوب بل على ما ليس مكتوباً أو ما بين السطور!

النظام المعرفي السابق بدأ بالانزياح التدريجي البطيء لصالح نظام معرفي أكثر إقناعاً.. ولم يعد يكفي الشيخ الجليل أن يفتي على الطريقة الفقهية القديمة وننصاع لفتواه، بل عليه الإلمام بتأثيراتها النفسية والتربوية والاجتماعية، وهذا يتطلب ثقافة حديثة وتطوير أدوات التحليل وطرق التفكير مع احترام حقوق الإنسان الجديدة.

لو أخذنا مثلاً العنف الأسري، في السابق كانت مجتمعاتنا صغيرة وأُسرها متقاربة، فإذا تعرض أحد أفرادها للعنف يتم ردع الجاني مباشرة من المجتمع الضيق المحيط بالاستناد على منظومة قيم تقليدية قبلية أو فقهية. المستجد هنا هو توسع المدن وتشظي العوائل الكبيرة إلى عوائل نووية ذائبة في بحر المدينة، فأصبح الجاني المستبد داخل الأسرة يصعب السيطرة عليه وفق النظم السابقة، فهو بعيد عن محيطه الضيق السابق، ولا أحد خارج الأسرة يراه (يشهد عليه في المحكمة)، ولا أفراد من المجتمع المحيط الجديد (الجيران والعمل) لهم صلاحية ردعه أو مناصحته إن سمعوا بالشكوى؛ وأصبحنا بحاجة ماسة لتشريعات ومؤسسات جديدة. والآن بدأت تظهر مؤسسات حكومية ومدنية لمواجهة العنف الأسري، وهي في بداية طريق وعر وطويل يمكن أن يسهله الفقهاء ويمكن أن يعرقلوه، لكنه طريق ماض بلا توقف، لأن ثمة مشكلة إنسانية تحتاج لحل.

الدعاة المحافظون لم يفرقوا في التشريع بين ما كنا عليه وما صرنا فيه، حين يرفضون الوقائع والإحصاءات عن العنف الأسري (خاصة اضطهاد المرأة) ويرون أنها مبالغات مغرضة، ليسوغوا رفضهم للأفكار الجديدة وما يتبعها من تشريعات ومؤسسات بحجة أنها مستوردة من الغرب، ويطالبون بالمحافظة على الفتاوى والأساليب القديمة.. ألا ترى كيف أن فتاوى قديمة يتم إعادة نشرها في الإنترنت وكأن الزمان والمكان لم يتغيرا؟!

الأساليب القديمة لم تعد قادرة على إيقاف أو تخفيف حالات العنف مع تمدد المدن وتعقيدات الحياة الجديدة وما يصاحبها من أمراض نفسية واجتماعية وبدنية. وقد ينسى المحافظ الأيديولوجي أن الهدف هو حل مشكلة ويظنها مناصرة لأيديولوجيا معينة، ويُصر على التمسك بفتوى قديمة تفتقد تدريجياً مشروعيتها وهويتها..

نعم الليبرالية تدعم التسامح الديني.. تدعم الشيخ والفقيه والقاضي الذي يُيسر على الناس ويحل مشاكلهم.. وليس مهماً أن نسميها ليبرالية أو تنويرية أو غيرها، سمها ما شئت، المهم أن تساهم في حل أزماتنا؛ فالليبرالية أساسها الدفاع عن الإنسان وليس الدفاع عن المصطلحات أو الأيديولوجيات.. فإما أن نتطور أو ربما ننقرض.. أو فلندع النظام المعرفي يعبث بنا بين الوعي واللا وعي!