عبدالإله بلقزيز

التشديد على تاريخية الصلة بين رابطتي العروبة والإسلام في العصر الحديث أمر في غاية الضرورة والأهمية لإدراك هذه الصلة في صورها التاريخية المختلفة، وعدم الانزلاق إلى تعميم وجه واحد منها على الأخرى كافة وافتراضه واحداً؛ وهو الغالب على النظر إلى المسألة في الفكر القومي العربي. إذ الصلة هذه ما كانت واحدة في البلاد العربية كافة بسبب اختلاف الظروف وشروط التكوين الاجتماعي في كل بلد أو منطقة جغرافية متجانسة أو متشابهة البنى والمعطيات التاريخية. فهي في بلاد المشرق العربي غير ما هي في المغرب العربي واقليم النيل (مصر والسودان) والجزيرة والخليج العربيين. وإذا كانت الرواية السائدة عن هذه الصلة غير ذلك، فليس لفشوّها وسيادتها أن يأخذانا عن حقيقة جزئيتها ومحدوديتها كرواية، ولا عن الحاجة إلى قراءتها في حدودها النسبية قراءة تقترن، في الوقت عينه، مع جهد علمي آخر لإعادة إدراك العلاقة بين الرابطتين ادراكاً أشمل وأوسع من إطاره المحدود والنسبي الذي دار فيه واستقر عليه خلال قرن من الزمن.
لم تقم الصلة بين العروبة والإسلام في مجتمعات المغرب العربي الحديث على النحو الذي قامت عليه في بلدان المشرق العربي في بدايات القرن العشرين الماضي؛ فما كانت صلة تمايز وانفصال وإنما صلة ترابط، وأحياناً صلة تداخل. ومرد الاختلاف بينهما في الصلة إلى الاختلاف في شروط التكوين ومعطيات التاريخ السياسي. فما كان سبباً في ذلك التمايز في بلدان المشرق العربي (في سورية الكبرى بالتحديد) لم يكن له من وجود في الفضاء التاريخي: الاجتماعي والثقافي والسياسي، لبلدان المغرب العربي، مما انعدم معه قيام الصلة بين الرابطتين على مقتضى التمايز ذاك.
ثلاثة من الأسباب التاريخية على الأقل تفسر ظاهرة عدم التمايز بين العروبة والإسلام في بلدان المغرب العربي:
أولها ان قطرين منها (المغرب، موريتانيا) لم يخضعا للحكم العثماني ولم تكن لهما حساسية تجاه الترك والتتريك بعد إذ صار أمره فاشياً في الولايات العربية الخاضعة للامبراطورية العثمانية. كما ان قطرين آخرين (الجزائر، تونس) سقطا في قبضة الاحتلال الاستعماري الفرنسي (1830 و1883) بزمن طويل عن بدء نشوء الاحتكاك العربي التركي عقب ميلاد النزعة القومية الطورانية في تركيا وبداية نشوء الفكرة القومية العربية كفكرة متمايزة عن الفكرة العثمانية. وهكذا إذا كانت فكرة العروبة قد نشأت في المشرق العربي في مواجهة سياسة التتريك وكشكل من أشكال التمايز القومي عنها، فإن ارتفاع السبب (التركي، القومي الطوراني) في المغرب العربي أنتج علاقة أخرى مختلفة بين الفكرتين العربية والإسلامية في الوعي الجمعي ولدى النخب.
وثانيها ان مجتمعات المغرب العربي لم تعرف شكلاً من اشكال الوجود المسيحي فيها ما خلا في حالة المستوطنين الأجانب. أما الأهالي، فما كان في جملتهم جماعات اجتماعية مسيحية مثل مجتمعات المشرق العربي. وإذا كان المسيحيون العرب، في بلاد الشام خصوصاً، قد نهضوا بدور كبير في مضمار التشديد على رابطة العروبة، التي تشدهم إلى العرب المسلمين، وعلى وجوب تمييزها عن رابطة الدين (الرابطة الإسلامية) التي لا يشكلون جزءاً منها، والتي يتخذها الأتراك ذريعة لاستمرار علاقة الاستتباع العربي للعثمانية، فإنّ خلو المجال الاجتماعي والديني للمغرب العربي من هذا التكوين لم يفضي إلى تمييز العروبة عن الإسلام ووضعها في مواجهته على نحو ما حصل في المشرق.
وثالثها ان بلدان المغرب العربي لم تعرف عملية التمزيق ذاتها التي عرفتها المشرق العربي نتيجة التجزئة الكيانية الاستعمارية التي قسمته إلى كيانات ودويلات صغرى، خصوصاً في بلاد الشام. ولقد كانت التجزئة واحدة من المصادر الأساس لفكرة العروبة في بُعدها القومي الوحدوي، وكان على العروبة في هذه اللحظة من تطورها، في المشرق العربي، ان تذهب أبعد في التمايز عن الإسلام لأنها ستكتسب مسحة قومية أقوى من ذي قبل. وغني عن البيان ان اختلاف أوضاع المغرب العربي عن المشرق العربي على هذا الصعيد بالذات رفع سبباً آخر من أسباب الممايزة فيه بين العروبة والإسلام.
التشديد على تاريخية هذه الصلة، إذن، ضروري لفهم ظاهرة الاختلاف بين المجالين المغربي والمشرقي في علاقة كل منهما بالفكرتين والرابطتين. وليست التاريخية التي تعني سوى شروط التطور التاريخي الخاصة بكل من المجالين، والتي حاولنا الإلماح إلى بعضها. وليس من شك في ان بعضاً مما ميّز أوضاع المغرب العربي عن المشرق يصدق على بلاد النيل وعلى أقطار الخليج العربي واليمن، ويعزز الحاجة إلى إعادة بناء إدراك الصلة تلك ضمن رؤية أشمل تستوعب حقائق الدائرة الأوسع جغرافياً وبشرياً في الوطن العربي. وهو الادراك الذي لا سبيل إلى تجديد الفكر القومي من دون البناء عليه بوصفه ادراكاً تاريخياً وليس صناعة ايديولوجية لفرضيات قد تصدق على الجزء دون الكل.
لعل سؤالاً يفرض نفسه في هذا المعرض ولم يتوقف عنده كثيرون: لماذا نشأت أحزاب قومية عربية في المشرق بينما هي لم تنشأ في المغرب ومصر والخليج واليمن؟
ربّ معترض يقول، وماذا عن الناصرية وأحزاب البعث والناصرية في تونس والجزائر موريتانيا واليمن والخليج؟ والاعتراض وجيه من وجه، لأن أحزاباً ومنظمات سياسية نشأت تحت هذه العناوين في هذه البلدان غير المشرقية. لكنه، من وجه ثان، يتجاهل انها كانت فروعاً للبعث أو لحركة القوميين العرب أو للطليعة العربية (الناصرية)، ولم تنشأ رأساً من فكرة قومية ذاتية. لقد كان أصلها في المشرق وفرعها في المغرب والخليج. في المقابل، أنجبت هذه البلدان ما لا حصر له من الأحزاب الوطنية والإسلامية منذ عشرينيات القرن العشرين، أما السبب، فهو ان الفكرة الوطنية كان لها ما يبررها في وجه الاحتلال الأجنبي. والفكرة الإسلامية تبلورت في مواجهة النظام العلماني، أما الفكرة العربية فما نشأت حزبياً لأنها ما وجدت نفسها كما في المشرق في مواجهة الفكرة القومية التركية والفكرة الإسلامية. لذلك ظلت الفكرة العربية في المغرب العربي فكرة ثقافية في المقام الأول، وجزءاً أصيلاً من المشروع الوطني والديموقراطي غير منفصلة عنه؛ وهو ما حقق حولها إجماعاً وحال دون أن تكون الفكرة فكرة فريق اجتماعي وسياسي صغير في المجتمع.