أحمد بن محمد الدبيان


كتب كثير من الناس عن فقيدنا معالي الدكتور غازي القصيبي، كما عرفه خلال حياته أناس أكثر، ومن المؤكد أنه قد سمع به أكثر من هؤلاء وأولئك.. وقديما اختلفت الآراء حول هذا الرجل الفقيد، عليه رحمة الله، وكتبت عنه أقلام في حياته، وبعد مماته، رحمه الله وأحسن إليه.. عرف الناس غازي القصيبي الأديب الروائي والشاعر، وعرف الناس غازي القصيبي الوزير، وعرف الناس غازي القصيبي السفير.. وكثير من حياته الوظيفية عرفه الناس من كتابه الشهير laquo;حياة في الإدارةraquo;.. ولكن هناك وجوها وجوانب أخرى من حياة القصيبي لا يوفيها هذا الكتاب.

قضى الله تعالى أن عينت مديرا عاما للمركز الثقافي الإسلامي في لندن. وكان هو لا يزال سفيرا هناك. فكان اللقاء الأول معه. وكنت متحفزا ومستعدا من الناحية النفسية لهذا اللقاء، فمن الذي لم يسمع عن غازي القصيبي. شد انتباهي أول شيء منه ما رأيته من اهتمامه ومتابعته لمن يعمل معه، صغيرا كان أم كبيرا. وهذه سمة يعرفها كل من عمل مع الدكتور غازي، رحمه الله، فليس ثمة شخص من مرؤوسيه بعيد عنه، وليس هناك شخص قريب جدا فيستر الآخرين حتى أنهم لا يرون القصيبي، أو يصلون إليه. وهذه ميزة أتمنى ويتمنى كل أحد أن تكون عند جميع المسؤولين وذوي المناصب الكبرى.

ومع العمل وتعدد المواقف والمشكلات التي واجهها المركز الثقافي الإسلامي في لندن عرفت منه سمة أخرى وهي أنه سريع اتخاذ القرار وسريع الرد والبت في الأمور. وقد مرت مواقف كثيرة في العمل عجبت فيها من سرعة اتخاذه القرار حين كنت أرى التريث، وعجبت أكثر من سرعة التنفيذ، وعجبت أكثر من درجة الالتزام لديه: التزام بالكلمة والتزام بالوعد! كان هذا شيئا آخر عرفته فيه وانتبهت إليه منه.. وهي أيضا سمة أخرى يتمنى المرء أن تكون موجودة أيضا عند كثير من المسؤولين ممن تمضي الأيام والشهور وهم يتأنون ويترددون في القرارات وبت الأمور. أذكر مرة أنني اتخذت قرارا حول أمر من الأمور، ولم أرجع إليه فيه فنبهني بلطف قائلا: يا أحمد إن عيوبي في الإدارة كثيرة جدا، ولك أن تنتقدها كما تشاء، ولكن لا أعتقد أن البطء في الرد والتوجيه هو واحد منها. ففهمت الدرس ووعيته عنه.

إن من لم يتعامل مع الدكتور غازي يرى فيه أنه برج عال مرتفع يصعب الوصول إليه، وأنه محاط بهالات كثيرة أسهمت وسائل الإعلام في تكوينها ورسمها.. كما أن منطقه وقوة معارضته وسرعة بادرته في الحوار تزيد في هيبته لدى من يعرفه. ولكن من يقترب منه ويتعامل معه يعلم أن هذا الرجل كان رقيق القلب كثير الإحسان والبر..

وهذا هو الوجه الآخر الذي ربما لا يعرفه كثير من الناس وكان هو - رحمه الله - لا يحرص على ذكره والحديث عنه. عرفت ورأيت أنه يحسن إلى الفقير والمحتاج ويرعى الموظف الصغير وظيفيا، بل وماليا أحيانا. ولقد أحسن حسب علمي إلى عدد لا يحصى ممن عمل معه من صغار الموظفين، وإلى عدد أكثر منهم ممن يرد إلى السفارة من المواطنين السعوديين فكان فعلا يمثل رعاية المملكة لمواطنيها في الخارج واهتمامها بأبنائها في الغربة..

وقد مرت بالمركز الثقافي الإسلامي أيام وأزمات كان على يديه، بعد الله، تفريجها وتنفيسها. ولعل من المناسب أن أذكر قصة قصيرة حول هذا الجانب من فضائله.

فاز - رحمه الله - في التسعينات بجائزة أدبية في الكويت. وكان ضمن الجائزة مكافأة مالية، فقال عند تسلم الجائزة إنه ترك هذا المبلغ تبرعا للمركز الثقافي الإسلامي في لندن. وعرفت أنا عن هذا المبلغ بعد سنوات من المدير السابق الأخ الدكتور حمد الماجد، ومضت السنون بعد ذلك. وذات يوم سألت الدكتور غازي عن ذلك، فأخبرني أن المبلغ يستثمر للمركز، ثم دلني - رحمه الله - على المسؤول عن الاستثمار في الكويت، وصار بيني وبين هذا تواصل تركت بعده الأمر رجاء أن يعود ذلك بمال كثير. ثم انتقل الدكتور من بريطانيا وزيرا للمياه. وتقلبت الأحوال، ومرت سنون أخرى حتى جاءت الأزمة المالية فعصفت بما هب ودب من أموال عباد الله، فصار هذا المال أثرا بعد عين! وفي زيارة الدكتور غازي الأخيرة إلى لندن لم يتيسر لي لقاء به، ولكنني كتبت إليه مداعبا ومذكرا أن المركز الإسلامي صار كالتاجر المفلس الذي بدأ يبحث في دفاتره القديمة ويقلب صفحاتها.. فمرت علي مدة قصيرة وفوجئت ذات صباح باتصال من مكتبه لتحويل مبلغ مالي من عنده بدل المبلغ المفقود، فعجبت أكثر من درجة الالتزام لدى هذا الرجل!!

رحم الله أبا سهيل فقد كان نجما في سماء الفضل كما كان نجما في سماء الأدب متألقا في الخير. وفي تصوري أن حياة الدكتور غازي نفسها وسلوكياته الإدارية جديرة بالنظر والتأمل العميق والدرس وهذه يدركها من عمل معه من قرب.. لا من عرفه من خلال كتبه وشعره فقط. وكنت أنا أحد من سعد بذلك. رحم الله الفقيد وغفر له وأحسن إليه:

أبا سهيل سلام الله لا رسل

إليك تحمل تسليمي ولا برد

ونفحة من قوافي الشعر كنت لها

في مجلس الأنس والريحان تحتشد

أرسلتها وبعثت الدمع يكنفها

كما تحدر حول السوسن البرد