علي محمد فخرو
عندما قام مجلس التعاون الخليجي منذ نحو ثلاثة عقود اعتقدنا بوجود رؤية مستقبلية واضحة:
أن يقوم ذلك المجلس بتنسيق وتكامل جهود أعضائه في حقول الاقتصاد والسياسة والأمن والخدمات الاجتماعية والثقافة، تمهيداً لإيصال دوله الأعضاء إلى نوع من الوحدة الحقيقية في تلك الحقول وفي غيرها . لكن المتتبع لنشاطات المجلس يشعر بشبه غياب لتلك الرؤية الوحدوية واقتصار نشاطات المجلس على أفعال وردود أفعال متناثرة لا تكوِّن في مجملها تراكماً يقوى مع مرور الزمن ويشتد عوده ويتجذر ليصبح حركة انتقال وحدوي كما أراده القادة في البدء، وكما تريده وتطمح إلى تحقيقه شعوب هذه الدول .
والواقع أنه بين الحين والآخر لا يُكتفى بجمود أوضاع المجلس ودورانه حول نفسه في أنشطة روتينية متكررة، وإنما يصل الحال إلى حدوث انتكاسات حقيقية مقلقة في هذا المجال أو ذاك . لنأخذ مجال الاقتصاد مثلاً، فقد احتاج المجلس لنحو ربع قرن ليوحد التعرفة الجمركية . وما إن تنفسنا الصعداء وقلنا إن المجلس سينطلق إلى آفاق اقتصادية أرحب، حتى فوجئنا بانتكاسة قرار توحيد العملة الخليجية ودخوله في دوامة التأجيلات والذرائع التي لا تنتهي . لنأخذ مجال الأمن الخارجي الذي اعتقدنا أن درع الجزيرة سيكوِّن نواته الأولى وتتدرّج نحو مؤسسة عسكرية تشبه حلف الناتو . لقد غابت تلك الرؤية وانتهينا إلى أنواع مبعثرة من التنسيق الفني واللوجستي .
هذان المثلان يبرزان مدى التخبط الذي يسير فيه المجلس بسبب غياب الرؤية الشمولية العميقة التي نتحدث عنها . ولعل أخطر أنواع التخبط هو ما نشاهده في الساحة السياسية . فبالنسبة إلى الموقف من العدو الصهيوني لا توجد ثوابت مشتركة أو خطوط حمر تضبط حركة وإيقاع التطبيع مع هذا العدو . وفي المدة الأخيرة أصبحت المواقف السياسية المشتركة للمجلس عبارة عن ردود أفعال تضبط توجهاتها أو مقدار شدتها التدخلات الخارجية . ولعل التذبذبات في شدة سخونة أو برودة المواقف من الملف النووي لجمهورية إيران الإسلامية، تعطي فكرة عن الارتباط بما يجري في الساحة الدولية وعدم وجود رؤية استراتيجية بالنسبة إلى موضوع قد تؤثر تطوراته في المستقبل القريب في كل ما بنته الثروة البترولية في منطقة الخليج برمتها . وينطبق الأمر على مواقف الدول الأعضاء المتباينة بالنسبة إلى ما يجري في العراق أو لبنان أو السودان أو غزة المحاصرة .
ولعل من أخطر الملفات التي تحتاج إلى رؤية مشتركة الملف الاقتصادي والملف السكاني . فالسياسات الاقتصادية الاستثمارية والتنموية لا تتوجه نحو بناء اقتصاد إنتاجي معرفي، بل تدور بنسب مختلفة حول اقتصاد المضاربات العقارية والأسهمية، وحول التباهي في الاستهلاك البذخي النهم، وحول الإبقاء على الاقتصاد الريعي البدائي غير العادل . ويتساءل الإنسان إن كانت قياداتنا تعي أهمية الفرصة التاريخية التي تمر بسرعة فائقة من يدنا، فرصة وجود فوائض مالية بترولية، وذلك قبل أن نصل جميعاً إلى نهاية حقبة البترول .
أما الملف السكاني الذي يمثل قنبلة ستنفجر في وجوه الجميع، فإنه ترك لكل دولة لتعالجه، وهناك إحجام عن التعامل مع الأسس التي يجب أن تحكم هذا الموضوع: عروبة المنطقة وثقافتها الإسلامية .
كل تلك النواقص لا يمكن إصلاحها بقرارات جزئية آنية مبعثرة، إنها تحتاج إلى رؤية مشتركة تستعمل كقياس وميزان يحكم كل القرارات، وهذا مع الأسف أمر يتجنبه المجلس حتى الآن ويأخذ الطريق الأسهل .
التعليقات