عصام نعمان

أسباب متعددة يسوقها الكتاب السياسيون وعلماء الاجتماع السياسي في تفسير تفكك العرب، نُظُماً وشعوباً وكيانات . تتنوع الأسباب بتنوع البيئات السياسية والاجتماعية . لكن ثمة سبباً يكاد يكون قاسماً مشتركاً بين جميع تجارب التفكك والانهيار . إنه غياب الدولة أو تغييبها في بلادنا العربية .

ldquo;الأهاليrdquo; في سائر الاقطار هم مجاميع طوائف ومذاهب، كما في لبنان، قبائل وطوائف ومذاهب وإثنيات، كما في العراق، وقبائل وعشائر، كما في جزيرة العرب، وعرب وأمازيغ، كما في أقطار المغرب الكبير . . الخ .

أكثر من ذلك، ثمة طوائف يتصرف بعض قياداتها وكأنها شعوب أو قوميات متمايزة . أليس هذا حال بعض قادة المسيحيين الموارنة في لبنان، وبعض قادة المسيحيين الكلدان في العراق، وبعض قادة الحوثيين في شمال اليمن، وبعض قادة الامازيغ في الجزائر والمغرب، وبعض قادة المسيحيين في جنوب السودان ؟

أقول بعض قيادات الطوائف ولا أقول إن الطوائف نفسها قد قطعت صلاتها ببقية الطوائف والجماعات التي تتألف منها شعوب هي جزء منها . غير أن الواقع، بكل ظواهره اليومية السيئة واحياناً العنيفة، يشي بحقيقة ساطعة هي تمزق النسيج الاجتماعي والمجتمعي في معظم بلادنا العربية .

يلجأ بعض الكتّاب والمفكرين والسياسيين المحترفين إلى نظرية المؤامرة ليفسروا ما نحن فيه من انقسام وفرقة وشرذمة وتفكك، فيحمّلون الغرب، أوروبا وأمريكا تحديداً، كامل المسؤولية .

الغرب، ولاسيما دوله الكبرى المستعمرة والمهيمنة، مسؤول دونما شك عن بث أسباب الشقاق والفرقة والفتنة في مجتمعاتنا وبين شعوب الأمة، لكن، ألا يلحقنا بعض المسؤولية في ذلك أيضاً؟

الغرب لا يستطيع ان يُلحق بنا شراً وأذى مباشرةً بل هو يفعل ذلك عبر وكلائه وعملائه والمتأثرين بثقافته، وهم من أبناء أمتنا وشعوبنا . بعضهم يفعل ذلك لقاء أجر مدفوع، نقداً أو سلطةً، وبعضهم الآخر ولعلهم الأخطر هم من يفعلونه تلقائيا دونما أجر نقدي أو سياسي . انهم فئة المتغرّبين وفئة المتمذهبين .

المتغرّبون هم الأشخاص المتشرّبون ثقافة الغرب بكل قيمها ومسالكها وتقاليدها وابعادها حتى أضحوا في تفكيرهم وتدبيرهم جزءاً من الغرب، من أوروبا وأمريكا خصوصاً، حتى لتكاد أرجلهم فقط ترسو فوق أرض بلادهم فيما عقولهم تسرح وتمرح وتأخذ وتعطي في رحاب دول الغرب .

المتمذهبون أشخاص أضحوا بقلوبهم وعقولهم أسرى ثقافة مذاهبهم الإسلامية الضيقة . يعيشون الحاضر بصيغة الماضي، ويقيسون الأمور بمقاييس فتاويه واجتهاداته الغابرة وسِيَر أعلام اوليائه . هم دائما في منافسة حارة، إن لم يكن في صراع محتدم، مع ldquo;اندادهمrdquo; في المذاهب الأخرى حتى لتكاد الحياة، حياتهم، تنحصر داخل إطار هذه المنافسة وذاك الصراع، ولا إدراكَ لديهم بالتالي لما يدور حولهم، بل ما يخترقهم، من عوامل ومطامع وتدخلات خارجية .

المفكر الجزائري الرائد مالك بن نبي لاحظ أمراً بالغ الأهمية . قال إن الاستعمار لا يتحقق إلاّ بوجود قابلية له لدى الشعوب المستهدفة به . ما نحن فيه، ماضياً وحاضراً هو، في جزء كبير منه، نتيجةَ هذه القابلية عندنا لتقبّل الاستعمار، أي لتقبل الآخر الأجنبي، سواء كان غرباً أوروبياً أو أمريكياً، أو شرقاً شيوعياً ( سوفييتياً) كما في النصف الثاني من القرن الماضي، أو إسلامياً سلفياً عالمياً كما هي حالنا اليوم .

كل هذه العوامل والمفاعيل أدت إلى الطامة الكبرى وهي غياب الدولة أو تغييبها في بلادنا العربية . ما عندنا اليوم ليس دولة بالمعنى المتعارف عليه دستورياً وسياسياً وسسيولوجياً . ما لدينا هو مجرد سلطة (أو سلطات) تحتكر أدوات العنف وتفرض على الفئات التي تتسلط عليها قانونها وانظمتها ودقائق احترام أشخاصها وأموالها . السلطة، بهذا المعنى، هي مجرد نظام مصالح بيد الفرد أو الفئة الأقوى . والأقوى كان في الماضي القوي بعسكره، ثم القوي بعسكره وماله، ثم بعسكره وماله وموارد بلاده . وفي الحاضر أصبح الأقوى بهذه العوامل الأربعة زائداً سلطة العلم والمعرفة وما نتج عنها من ثورة المعلوماتية وتكنولوجيا الاتصالات .

لا دولة في لبنان ولا في العراق ولا في اليمن ولا في السودان ولا في الضفة الغربية ولا في غزة ولا في أي من الأقطار العربية التي تعاني من اضطرابات سياسية أو أمنية أو أثنية أو اجتماعية .

غياب الدولة المدنية الوطنية أو تغييبها واقع تاريخي قديم ومتجدد . وهو أدى إلى تهميش المجتمع الأهلي ومن ثم إلى تغييبه أيضاً، حتى ليكاد المؤرخ النبيه يقرر أن العرب عاجزون عن حكم أنفسهم . فالمؤرخ المصري المدقق شارل عيساوي توصل في كتابه ldquo;تأملات في التاريخ العربيrdquo; إلى أنه ldquo;كان من المألوف، لما يزيد عن ألف عام أن يكون الحكام (في بلاد العرب) من أصول أجنبية أتراك وكرد وفرس وأن تتركز أوجه النشاط الاقتصادي في أيدي الأجانب أو أبناء الأقليات، الذين تمتعوا بحماية أجنبية بفضل معاهدات أقرّها حكام مسلمونrdquo; (راجع كتابه الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية ،1991 صفحة 126 وصفحة 204) .

حكام مسلمون؟ ربما مسلمون بالهوية أو بالقيافة . لكن معظمهم كان واقعاً تحت تأثير أوروبا بفعل الثقافة الوافدة مع جيوشها الغازية أو بفعل السيطرة المفروضة بقوة السلاح .

ما نحن فيه اليوم هو نتاج قرون وأجيال من التراجع والانحطاط والضعف والاستضعاف والاستبداد وسيطرة الأجانب وهيمنتهم وعجزنا عن حكم انفسنا إلاّ بسلطة هي أبعد ما تكون عن مفهوم الدولة .

وعندما تكون الدولة غائبة أو مغيّبة، كيف تحمي الأقليات نفسها من تسلّط الاكثريات ؟ إنها تعود إلى متحداتها الأولية الضيقة وتتقوقع في شرانقها . تعود إلى الطائفة والمذهب والأثنية الناشطة والى . . الاستعانة بالأجنبي ليشد ازرها أو لrdquo;يحميهاrdquo; . وهل يحميها الأجنبي؟

الأجنبي يعمل في خدمة مصالحه ولا يتأثر بعواطف غيره ناهيك بعواطفه، ولاسيما من يستهدفهم بقوته أو بمصالحه أو بها جميعاً . وماذا تكون النتيجة؟

اسألوا الأقليات، واحياناً الأكثريات، التي لحست مبرد الأجنبي في تاريخنا المعاصر، وما لَعَقَت في نهاية المطاف إلاّ دمها المراق هدراً .