عبد العزيز محمد قاسم

سيبقى الكلام مثاليا ما لم يشفع بقانون يجرّم أمثال هذه الأوصاف التي تورّط بها حتى بعض المثقفين للأسف، وأخرجوا مقولات تنضح بالعنصرية، بل ذهب بعضهم إلى استخدام سلاح التخوين الوطني للأسف تجاه من يختلف معهم

تذكرت مباشرة أحمد السليطي -المحلّل الرياضي الذي أشعل الإعلام في دورة الخليج الأخيرة باليمن- وأنا أتابع بعض فعاليات اللقاء الحواري الفكري الثالث حول الخطاب الثقافي بمدينة جدة، الذي نظمه مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني الثلاثاء قبل الماضي وكان بعنوان (القبلية المناطقية.. التصنيفات الفكرية وأثرها على الوحدة الوطنية).
السليطي قال على الهواء مباشرة في أحد الأقنية الفضائية الرياضية وهو يصف المنتخب السعودي بأنه quot;مخلفات حجاجquot; وquot;بقايا حجاجquot; وquot;حج ولم يعدquot;، وثارت ثائرة الصحافة السعودية وقتها، وقاموا بالرد عليه عبر مقالات حادة اتهموه فيه بالعنصرية وشق الصف الخليجي، بالطبع ابتسمت وأنا أردّد: quot;بضاعتنا ردت إليناquot;، ذلكم أن بعض إعلاميي الرياضة في بلدي هو من قام بإطلاق هذه الألفاظ، بل أحدهم طالب لاعباً في نادي الاتحاد بالعودة لنيجيريا (كذا)، وهذا اللاعب مثـّل المنتخب السعودي، وشرّف وطنه في تلك المحافل الدولية التي لعب فيها، وصمت الجميع ولم يحرك ساكناً، في إقرار ضمني بهذه الطبقية المقيتة.
كان من أول البنود في بيان مركز الحوار الوطني عقب انتهاء الجلسات الثرية quot;تغليب الولاء للقبيلة أو المنطقة والمذهب على حساب الولاء للوطن المرتكز على الشريعة، مخالف للإسلام ونظام الحكم وحقوق الإنسانquot;. ولكن كيف يمكن ترجمة هذا في واقعنا المعاش، ونحن نشهد ردّة للقبيلة في وطن التمدن والحضارة، ودونكم الأقنية الشعبية والمهرجانات التي تقام باسمها، فضلاً عن المنتديات العديدة التي تزخر بها ساحات الإنترنت، وتأكيداً هذا حقٌ أصيل لأبناء تلك القبائل، ولا إشكال في ذلك، بل حتى الإسلام لم يحارب القبيلة، بل شذبها وهذبها، وحارب التعصب والانغلاق والطعن في الآخرين، وهو ما نطالب به، في ضرورة انخراط القبيلة في اللُّحمة الوطنية الكبرى، والنسيج الاجتماعي الذي يحاول ساستنا تمتينه بروابط الوحدة والانتماء الأكبر بدلاً من التحزبات الضيقة.
طرحت لمرات عديدة بأن ثمة مشتركات بين التيارات الفكرية الرئيسة في وطني، ولربما موضوع مكافحة التعصب القبلي، والنظرة الدونية لبعض المناطق، واللمز والغمز في الأنساب، هي قضايا جوهرية تشترك فيها كل التيارات في نبذها، ومن الأجدى أن نكف قليلاً عن هذا الاحتراب الفكري الذي أشغل المجتمع وقادته، والالتفاف صفاً خلف ولاة الأمر في محاربة أمثال هذه الآفات الاجتماعية التي تنخر في جسد الوطن..
فالليبراليون على سبيل المثال يطالبون بدولة المؤسسات المدنية، التي يتساوى فيها الجميع، وينضوي الكل تحت لوائها دون تمييز، ووصل عبر هذه الثقافة رئيسٌ أسود يحكم أقوى دولة في العالم، فمحاربة مثل هذه العنصرية والردّة إلى القبيلة على حساب الوطن ومؤسساته أمرٌ لازم في ثقافة المجتمع المدني.
وإن نظرنا في الاتجاه الآخر، تجاه التيار الإسلامي، فأدبياته تزخر بالحرب على هذه العنصرية المقيتة، بل اعتبر أن التعصب الأعمى للقبيلة والفخر على الآخرين والتعصب هو من أعمال الكفار وأخلاق الجاهلية، وقد قال سيد البشر صلى الله عليه وسلم: quot;ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهليةquot; (رواه البخاري ومسلم)، وحديث آخر: quot;أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحةquot; (أخرجه مسلم).
وأنا هنا أركز على التيار الإسلامي، وأشعر أن الدعاة لم يقوموا بما يجب في محاربة هذه العنصريـة، وهم منْ بيدهم التغيير الجذري لهذه الثقافة المتأصلة، والمعيقة للنهضة والتقدم، دون أن أغفل جهود علماء فضلاء في هذا الموضوع، غير أن ذلك لا يكفي، وأنا أقارن الواقع؛ في عدم شيوع هذه التعاليم التي نقرأها صباح ومساء: quot;إن أكرمكم عند الله أتقاكمquot; (الحجرات: 13). وقوليه صلى الله عليه وسلم: quot;من أبطأ به عملـه لم يسرع به نسبهquot;، وquot;يا بني هاشم لا تجيئني الناس بالأعمال وتجيئوني بالأنسابquot;.
ومهما بالغنا في الحديث عن ضرر هذه الآفات المستوطنة في مجتمعنا، سيبقى الكلام مثاليا ما لم يشفع بقانون يجرّم أمثال هذه الأوصاف التي تورّط بها حتى بعض المثقفين للأسف، وأخرجوا مقولات تنضح بهذه العنصرية، بل ذهب بعضهم إلى استخدام سلاح التخوين الوطني للأسف تجاه من يختلف معهم، دون أي رادع قانوني يلجم هؤلاء السفهاء من أن يتطاولوا على الآخرين بحجة أنهم قبليون أو من فئة 220 والآخرون طروش بحر أو خضيرية، أو في المقابل من يصف أولئكم بأنهم quot;بدوquot; أو quot;متخلفquot; وغيرهما من عبارات التعيير المضادة..
على مجلس الشورى تبني هذا الموضوع ودراسته والرفع بتوصيات بتطبيق عقوبات رادعة كي لا يبقى سلاح الوطنية أو التعيير القبلي أو الفخر بالأنساب سلاحاً بأيدي السفهاء من القوم، يوجهون بها فوهاتها إلى قلب هذا الوطن لتقسيمه عرقياً أو طائفياً أو مناطقياً..
سكوت المثقفين والنخب على هذا الوضع إقرار بهذا العرف السائد الجائر للأسف، وخيانة للمبادئ والقيم التي يؤمنون.