ثريا الشهري


العلم والإيمان قد يبدوان متناقضين في الظاهر لكنهما في الباطن متممان لبعضهما البعض... كيف؟ العلم مجاله العالم الموضوعي، والإيمان يعمل على الذاتي، العلم يحاول التعرّف على حقيقة الخارج، والإيمان يسعى إلى حقيقة الداخل، فإذا كان الإنسان يعرف الكثير عن الأشياء... عن هذا وذاك، إلا أنه يظل غير واع تماماً كنه ذاته، مما يوجد حالة من عدم التوازن لا تُصحّح وتتعادل إلاّ إذا قبل العلم بالإيمان على أنه المكمِّل، وكذا الحال بالنسبة الى الإيمان، فالمؤمن من حيث طبيعته البشرية لا يعيش بالإيمان وحده، لكنه يحتاج إلى سائر الأدوات والوسائل التي يزوده بها العلم، كما أن الإنسان لا يعيش بعقله وحده، بل إنك إذا وجدته يفعل، فسيغذي عقله بتعزيز شكّه (خاصة الوجودي)، وسينصب جهده في شحذ شكّه وربما بالانتقال معه إلى مرتبة المطلق، وحالما تتنامى ثقتك باستنتاجك، يعود ويتنامى ارتيابك بإيعاز من عقلك، فيتعاظم توترك، فينمو ويتسلق بؤسك، ما يفسر الانتحار ووصول بعض العلماء إلى حافة الجنون، فإذا كان العلم يُستثمر لرفاهية الإنسانية لحياة أفضل وهو صحيح إلى حد كبير، فمن أين أتى هذا القلق؟ كما أسلفنا، من الشك الذي يعتمد عليه العلم لأنه نتاج العقل، الأمر الذي يقودنا إلى القول إن العلم لا يصل إلى نتائجه وتكون مطلقة وقطعية أبداً، بل هي حقيقة نسبية، لأنها حصيلة أداة (عقل) محدودة ببشريتها، بخلاف الإيمان الذي يقع في النفس ويقوم بوظيفته عبر الوثوق والاطمئنان، فماذا لدينا هنا؟ الشك وهو المناخ الطبيعي والضروري لوجود العقل، والاطمئنان وهو الأمان والاسترخاء الذي يناسب الروح، وهما متناقضان لكنهما متناغمان. إنها عظمة الخالق في خلق توازن التنافر في الإنسان.

الإشكالية حين يُسقَط الإيمان على كل تساؤل، فيعيق السائل والسؤال، مع أن الصفة الإيمانية الأعظم هي الشجاعة، فعبرها يمكن للمرء أن يبحث في اللانهائي، بينما يعجز الجبان عن مغادرة الشاطئ، أما الشجاع فيتعلم كيف يتحرك من المعلوم إلى المجهول، فإذا بات مجهوله معلوماً تعلم كيف يتجاوزه إلى مجهول آخر، فطالما أنه عاش المعلوم وجرّبه أو علم به، فلا حاجة به للوقوف عند محطته، لأنه لو تسمّر مكانه فمعناه أن الجديد المجهول سيفوته، فهذا القادم الجديد يحتاج إلى فضاء، ولن يظهر إذا كان ذاك القديم يملأ الحيّز، إنها شجاعة الوعي التي تأتي أولاً وكل ما عداها يأتي بعدها، (شجاعة الجهل لا مكان لها هنا)، شجاعة الإيمان التي لا تخشى على يقينها، ولكن تقويه.

يتورط كيان الشجاع بالحياة، حيث يكون عقله أكثر وعياً، ويكون للوجود أن يمر عبره، فالإنسان اليقظ يعلم جيداً أن الحياة تتغير باستمرار، وهي معرفة لا تتعارض مع الإيمان، بل تساهم في أن يتشكّل الوعي بهذا الإيمان فيرتقي به من درجة أقل إلى درجة أعلى، فكل شيء متغيّر ما عدا التغيّر نفسه، وتلك هي إثارة الحياة، فهي إن كانت متوقعة فحتماً ستكون مملة، فكيف يجنح المرء إلى حياة شبيهة بالموت بحجة الراحة والملاءمة؟ إن بقي الإنسان في داخله على حاله فلن يكون هناك تحول، بل الأخطر أننا قد نستمر في عيش مزيّف من التحول، يوحي مظهره الخادع أن صاحبه متطور، بينما هو متنكر بزيِّ هذا التطور، زيّ تفضحه الشهوة والدافع البيولوجي والحرمان النفسي، زيّ قد يعريه موقف أو قرار، زيّ قد يعتقد أن في المتعة السعادة، (لو كانت المتعة مرتبطة بالسعادة فلم لا تبدو على ممارسها مظاهر السعادة كنتيجة لها؟ هل لأن المتعة لا تعني السعادة؟). الولادة لا ترادف الحياة، هي فقط فرصة للحياة، وعليك وحدك يقع الاختيار بأن تحيا، بأن تكون شجاعاً بما يكفي لتعيش وعيك بلا تقليد... بلا تقليدية.