يوسف مكي
قيل الكثير، وكشف الكثير عن أهداف زرع الكيان الصهيوني الغاصب في فلسطين بمنطقة الوصل بين مشرق الوطن العربي ومغربه . وقد بدأت النوايا والتعابير تفصح عن ذاتها بالتدرج، منذ احتلال نابليون لمصر، وإطلالته على شبه جزيرة سيناء، وإشارته إلى أن من يسيطر على المنطقة التي تشكل فلسطين التاريخية، يسيطر على الطريق إلى الشرق . وقد نوه بعض المستشرقين بذلك، ورأى البريطانيون في الاستيلاء على المنطقة الفاصلة بين آسيا وإفريقيا تأميناً للطريق إلى درة التاح البريطاني . وكان هرتزل في رسائله إلى الأوروبيين، قد أشار إلى أن قيام كيان يهودي على أرض فلسطين سيشكل سداً قوياً بين المدنية والبربرية، ويحمي المصالح الأوروبية .
ذلك كله وإن ينبغي أن يكون حضوره قوياً في ذاكرتنا، لكنه أصبح بالنسبة للكثير شيئاً من التاريخ، ولم يعد بحاجة إلى إثبات . لقد أكدت مسيرة ما يقترب الآن من قرن من الزمن، منذ الإعلان عن وعد بلفور الذي وعد الصهاينة بإقامة وطني قومي لليهود في فلسطين، أن المشروع الصهيوني في فكرته والتحضير له ونشأته هو مشروع غربي بامتياز . وقد كان ولا يزال في القلب من مشروعات الهيمنة المختلفة على الأمة، بكل تشعباتها وتجلياتها .
إذن فالمشروع لم يستهدف فلسطين وحدها، بل الأمة العربية كلها . لقد غدت فلسطين قاعدة الانطلاق للعدوان الصهيوني على العرب . وخلال عقود طويلة، أثبت الكيان الغاصب بسلوكه، عبر اعتداءاته المتكررة على البلدان العربية، من بغداد إلى تونس صحة ذلك . وفي العقود الخمسة الأخيرة، وصلت ذراع الموساد وشبكات التجسس ldquo;الإسرائيليةrdquo; إلى معظم البلدان العربية، مؤكدة بأنشطتها خطورة استمرار هذا الكيان على الأمن القومي العربي، واستقرار المنطقة بأسرها، من دون استثناء، بما في ذلك البلدان التي وقعت معاهدات ثنائية مع ldquo;إسرائيلrdquo; .
وضمن اعترافات أجهزة الموساد، وما تكشف عن أنشطتها، تأكد أنها عملت على العبث بالأمن والاستقرار في سوريا ومصر ولبنان والأردن والعراق والسودان وبلدان عربية أخرى . وخلال العام المنصرم، نفّذ عملاء الموساد عملية اغتيال القيادي في حركة ldquo;حماسrdquo; محمود المبحوح في مدينة دبي، التي يسجل لأجهزة الأمن فيها براعتها في كشف خيوط العملية وفضح ملابساتها .
لم يقتصر دور الموساد بالبلدان العربية، على كشف الأسرار وجمع المعلومات، واغتيال القادة والمقاومين الفلسطينيين لمصلحة الكيان الصهيوني، بل عملت أجهزته في التحريض على التفتيت وزرع الفتنة في البلدان العربية، واستثمار التوترات الطائفية والعرقية والصراعات القبلية لإضعاف تماسك وحدة الدولة الوطنية بهذه البلدان .
في جمهورية مصر العربية، التي مضى على توقيعها معاهدة صلح مع ldquo;إسرائيلrdquo; ثلاثة عقود، جرى خلالها إنهاء حالة الحرب، وإقامة علاقات دبلوماسية وسياسية واقتصادية وتطبيع معها، تم الكشف مؤخرا عن عدد من شبكات التجسس ldquo;الإسرائيليةrdquo;، بما يؤكد استمرار النظرة الصهيونية لمصر، كدولة معادية، وسريان مفهوم الأمن ldquo;الإسرائيليrdquo;، الذي يتعامل مع البلدان العربية مجتمعة، بوصفها محيطاً معادياً ينبغي ضربه واختراقه، وزرع الفتن فيه، والقيام بعمليات الاغتيال والتخريب الاجتماعي والاقتصادي والمعنوي، بما في ذلك العمل على تفتيت وحدته الوطنية .
وفي هذا السياق، نشير إلى تمكن أجهزة الاستخبارات المصرية من الكشف عما يقرب على 30 شبكة تجسس ldquo;إسرائيليةrdquo; في مصر، منذ تسعينيات القرن المنصرم . ومن بين أبرز انجازات الاستخبارات المصرية، القبض في عام 1996 على عزام مصعب عزام، الذي حكم عليه بالسجن خمسة عشر عاماً . وبقي هذا الجاسوس محط اهتمام قادة العدو الصهيوني، حيث تدخل لإخراجه من السجن ثلاثة رؤساء وزارة صهاينة . وخرج من السجن بعد مرور ما يقارب ثمانية أعوام على حبسه، بعد إلحاح الإدارة الأمريكية للإفراج عنه .
لقد جاء الكشف الأخير، عن شبكات التجسس ldquo;الإسرائيليةrdquo; في مصر، بعد فترة وجيزة من كشف أجهزة الأمن اللبناني عن شبكة تجسس مماثلة، من بين أعضائها ضابط متقاعد، مقرّب من الجنرال ميشيل عون رئيس التيار الوطني الحر في لبنان . إضافة إلى إعلان الجيش اللبناني في ديسمبر/كانون الأول الماضي عن تفكيك أجهزة تجسس ldquo;إسرائيليةrdquo; مزروعة فوق جبلين، هدفها تصوير وتحديد أهداف أرضية، وإعلان الجيش اللبناني، عن تفجيره جهازي تنصت في المنطقة حدودية مع ldquo;إسرائيلrdquo; . ولا تستبعد أجهزة الأمن اللبنانية ضلوع ldquo;إسرائيلrdquo; في عمليات الاغتيال التي جرت في السنوات الماضية، من أجل خلخلة التركيبة الاجتماعية اللبنانية، وإشعال نيران الفتنة الطائفية والمذهبية، وإعادة شبح الحرب الأهلية من جديد .
في العراق، تتحدث أنباء عن وجود شركات صهيونية تعمل بتسميات استشارية، ومقاولات، ومراكز أبحاث، لمصلحة الموساد ldquo;الإسرائيليrdquo;، وتلعب درواً رئيساً في التصفيات المستمرة للعلماء العراقيين، التي بدأت إثر احتلال العراق عام ،2003 وفي هذا الاتجاه، تتحدث أنباء عن دور للموساد لدعم قيام دولة كردية مستقلة في شمال العراق، وإثارة التنظيمات الكردية الانفصالية في تركيا، ودعم إمكانية استقلالهم وقيام دولة كردية في جنوب تركيا، على غرار ما يجري في العراق . وقد سبق أن استدعت الخارجية التركية السفير ldquo;الإسرائيليrdquo; في أنقرة، وسلمته رسالة احتجاج حول تدخل جهاز ldquo;الموسادrdquo; في الشؤون الداخلية التركية .
وخلال اعتقالات ديسمبر/كانون الأول الماضي لشبكات تجسس ldquo;إسرائيليةrdquo; في مصر، قدم المتهم بالتجسس لحساب الموساد، طارق عبد الرزاق معلومات تؤكد استهداف الموساد لمصر وسورية ولبنان . ولا شك في أن الكشف عن ذلك قد وجه ضربة قوية ldquo;للإسرائيليينrdquo; . على أن ذلك لن يكون نهاية المطاف، فسوف تستمر ldquo;إسرائيلrdquo; في محاولة إشاعة الفوضى بالمنطقة . وليس من المستعبد وجود علاقة للموساد بالعملية الإرهابية التي استهدفت كنيسة القديسين القبطية في مدينة الإسكندرية .
ويبدو أن نزيف التفتيت والخراب الذي يقوده الموساد، وتشارك فيه قوى الهيمنة العالمية سوف يتواصل، ما لم تتم مواجهته، على عدة جبهات داخلية وعربية وإقليمية .
فعلى صعيد الداخل لا مناص من تحصين مجتمعاتنا العربية، من محاولات الاختراق، ولن يتحقق ذلك إلا ببناء دولة المؤسسات، وقيام أنظمة سياسية تستمد مشروعيتها من التسليم بمفهوم المواطنة، والحق في تشييد مؤسسات المجتمع المدني، ومحاربة حالة الاحتقان التي تعم المجتمعات العربية بأسرها، من خلال النأي عن سياسة الإقصاء واحتكار السلطة، والتصدي للفساد، بمختلف أوجهه، وتأسيس نظام اجتماعي يستند على العدل والندية والتكافؤ .
وعلى الصعيدين الرسمي والشعبي، ينبغي إعادة قراءة المشروع الصهيوني، من منظور جديد، باعتباره مشروع حرب يستهدف الأمة العربية بأسرها . وذلك يقتضي العمل على إعادة صياغة سياساتنا واستراتيجياتنا، والانتقال في فهم الصراع، من الرؤية التقليدية، التي سادت منذ منتصف السبعينيات، والتي انطلقت من إمكانية التعايش مع هذا المشروع، إلى رؤية جديدة تسعى لتحصين المجتمع العريي من المؤامرات والدسائس . ويبنغي أن يكون للعلماء والمفكرين، والجامعات ومراكز البحث العلمي، دور بارز في تفكيك الظاهرة الصهيونية، وصياغة رؤية علمية للتعامل معها، من أجل صيانة المجتمع، وحماية الأمن القومي العربي، صياغة تنطلق من رؤية قوامها أن الصراع مع الصهاينة، ليس حيال أراض متنازع عليها، كما هو في قرار مجلس الأمن الدولي رقم ،242 بل صراع وجود .
التعليقات