واشنطن
FOUAD AJAMI Wall Street Journal
وسط الاضطرابات القائمة في مصر، يتّضح جيداً اليوم حجم الحقد الذي يشعر به الناس تجاه الحاكم وعائلته، وعادةً ما تقوم الأنظمة المشابهة لنظام مبارك بأكل الأخضر واليابس كما يُقال، ونتيجةً لذلك، يعود المتملقون إلى الواجهة لسرقة ما يمكنهم تحصيله، أما الأشخاص الذين يملكون قلباً شجاعاً وعزة نفس كبيرة، فهم يُلقَون في السجن أو يُعزَلون على هامش الحياة العامة.
laquo;عندما تجاوز رمسيس الثاني عتبة الثمانين من عمره، احتفل بتجديد شبابه وعهده، وعمد إلى تكرار الاحتفال سنوياً حتى بلغ التسعين وما فوق، وإلى عرض قواه على استعادة الشباب أمام الآلهة في أعلى المسلات التي كان يشيّدها دوماً على شكل نصب تذكاري، وكان الفرعون المُسنّ يزيّنها في الأعلى بالفضة والذهب كي يغمر لمعانها أراضي مصر حين كانت أشعة الشمس تنعكس فيهاraquo;.
إنه وصف مستوحى من كتاب كلاسيكي عن هذه الأرض القديمة، بعنوان laquo;النيل في مصرraquo;، بقلم إميل لودويغ (1937). حسني مبارك، الضابط العسكري الذي أصبح فرعوناً على طريقته الخاصة، تجاوز الثمانين من عمره، ويُعتبر عهده الرئاسي ثالث أطول عهد منذ رمسيس الذي حكم 67 عاماً، أما ثاني أطول عهد، فيعود إلى جندي محظوظ مُلفت، وهو محمد علي، المولود في ألبانيا ومؤسس مصر الحديثة، وقد غزا البلاد خلال السنوات الأولى من القرن التاسع عشر وحكم طوال خمسة عقود، ثم حكمت سلالته مصر حتى منتصف القرن العشرين.
ظاهرياً، تبدو مصر من أكثر الدول استقراراً وأماناً على ضفاف نهرٍ نابض بالحياة. بحسب السجلات التاريخية، لم يسبق أن قتل المصريون فراعنتهم، فقد كان أنور السادات أول رئيس يتعرض للاغتيال، لكن هذه الصورة الظاهرية تخفي كمّاً كبيراً من الاضطرابات، إذ لطالما خرقت الثورات الوحشية مواقف الخضوع لمشيئة الآلهة والحكام.
يقول لودويغ في كتابه: laquo;حين ثار الفلاحون والعمال في مصر على أسيادهم، وحين انتشرت مشاعر غضبهم، أدت الثورة إلى سلب السلطة من الأثرياء ورجال الدين في مصرraquo;. من بين هذه الثورات، نذكر تلك التي وقعت في نهاية المملكة القديمة، وقد اندلعت بشكل متقطع طوال قرنين (بين 2350 و2150 ق.م.).
في العصور الحديثة، وتحديداً عام 1952، شنّ المصريون ثورة أخرى وحددوا معظم معالم القاهرة الجديدة، ما أدى إلى سقوط النظام الملكي. واجه السادات نفسه ثورة كبرى، عام 1977، حين حاول تخفيض نسبة دعم الخبز والسكر والغاز المُعدّ للطهي، ويُقال إنه كان مستعداً لمغادرة البلاد في وجه تلك الاضطرابات.
يصعب تحديد الوقت الذي فقد فيه حسني مبارك، ابن طبقة الفلاحين الوسطى، دعم شعبه، فقد كانت البداية حسنة بالنسبة إلى هذا الرجل الأكثر حذراً على الإطلاق، فهو كان حاضراً على المنصة في 6 أكتوبر 1981، حين أطلقت مجموعة صغيرة من الشبان المنتمين إلى الجيش النار على السادات بينما كان هذا الحاكم الحيوي يشيد بجيشه ويحتفل بالذكرى السنوية الثامنة لحرب أكتوبر في عام 1973.
هكذا ظهر الرئيس الجديد بناء على رغبة سلفه، ولم يكن له أي ماض سياسي، ولم يعرف الشعب المصري شيئاً عنه، لقد كان نقيضاً لشخصيتين عظيمتين وطموحتين مثل عبدالناصر والسادات، فتعهد مبارك بالتصرف بكل تواضع، ونجح بتهدئة أوضاع النظام بعد ثلاثة عقود من الاضطرابات والحروب والعروض اليائسة لإعادة بناء البلد.
تحدث صديق لي- توفي الآن- عن مبارك كونه كان جنرالاً في الجيش إلى جانبه ومن جيله، وكأنه يعرفه جيداً، فقال عن ذلك الضابط إنه كان مسؤولاً مدنياً برتبة رئيس. أعلن مبارك أنه سيخدم ولايتين، تمتد الواحدة منهما على ست سنوات، على أن يتنحى بعد ذلك، لكن سرعان ما زادت شهيته للنفوذ والسلطة، فشهد الضابط المتواضع تحولاً ملحوظاً وتبين أن المصريين أصبحوا أمام رئاسة لمدى الحياة، وفي تغير مدهش للأحداث، تحول مبارك إلى رجل متغطرس يتجاهل إرادة المواطنين وتبدّل آرائهم، وهي أمور كان يخشاها عبدالناصر والسادات.
فرضخت مصر لإرادته، وهكذا تحول البلد الذي كان يتمتع ببرلمان حيوي خلال العشرينيات والثلاثينيات إلى نظام استبدادي عقيم، وتراجعت قيمة الأرض التي انفتحت على أوروبا خلال القرن التاسع عشر وأنشأت النقابات والجمعيات المهنية ونظاماً قضائياً مستقلاً.
لطالما عُرفت مصر بعزة نفس شعبها- حتى في الوقت الذي حاولت فيه مصر تحديث البلاد وفشلت، وحتى عندما فُطر قلب مصر خلال الصراعات التي خسرتها وأدت إلى انتشار شعور عميق بالخيبة- لكن ظهر مبارك ليهين حس الكرامة الوطنية.
في تاريخ السلالات والممالك المسلمة، لطالما شكّلت الزوجات والأطفال سبباً بارزاً من أسباب سقوط الحكّام، وكانت سوزان مبارك، الزوجة الطموحة التي تتمتع بسلوكيات متكلفة وحس عالٍ لتذوق الثراء والسلطة (تختلف عن مصففة الشعر ليلى الطرابلسي، زوجة الدكتاتور التونسي المخلوع زين العابدين بن علي) وابن الرئيس الذي كان يستعد بكل وضوح ليرث السلطة من والده، قد ساهما في تعميق الفجوة بين مبارك وشعبه.
لطالما كانت مصر تحدد المنحى الذي تتخذه السياسات العربية، وهي المكان الذي تبدأ منه جميع المظاهر العصرية في الحياة العربية مثل السينما، والراديو، وتحرر المرأة، والحياة البرلمانية، والسياسات الشاملة، وفرض النمط الصناعي على قطاعات العمل. لقد ساهم مشهد التونسيين الذين كانوا في السابق شعباً هامشياً في المحور العربي، لكنهم تجرؤوا على النزول إلى الشوارع والإطاحة بحاكمهم الاستبدادي، في تشجيع المصريين على القيام بالمثل. هم تعبوا من السجن الكبير الذي بناه لهم مبارك. لا مفر من أن يصبح رجل ينصّب نفسه في السلطة طوال ثلاثة عقود محور موجات الاستياء في البلاد.
دائماً ما تكون الثورات من هذا النوع أشبه برهان مجهول النتائج. في العمق، تشكل هذه الثورات محاولة لتطهير البلاد، وهي مهمة يسعى المجتمع إلى تحقيقها لمحو لطخة العار الناجمة عن خضوعهم لتجاوزات دكتاتور. وسط هذه الاضطرابات، يتّضح جيداً اليوم حجم الحقد الذي يشعر به الناس تجاه الحاكم وعائلته. عادةً ما تقوم الأنظمة المشابهة لنظام مبارك بأكل الأخضر واليابس كما يُقال، ونتيجةً لذلك، يعود المتملقون إلى الواجهة لسرقة ما يمكنهم تحصيله، أما الأشخاص الذين يملكون قلباً شجاعاً وعزة نفس كبيرة، فهم يُلقَون في السجن أو يُعزَلون على هامش الحياة العامة.
كان موقف مبارك من منتقديه شرساً جداً. بالنسبة إلى هذا الرجل المُسنّ والمعزول، تُعتبر المعارضة بمقام الخيانة دوماً. لكن لا يمكن أن ننسى laquo;الإخوان المسلمينraquo;، فقد نشأت حركة laquo;الإخوان المسلمينraquo; في مصر، في أواخر العشرينيات، وقد شكل laquo;الإخوانraquo; الحجة والفزّاعة التي استعملها حسني مبارك لتخويف الطبقة الوسطى محلياً والدول المانحة الخارجية في واشنطن وأوروبا، علماً أن هذه الأطراف تدعم نظامه خوفاً من انهيار مصر وانتصار المتعصبين.
في إحدى الروايات التي كتبها الروائي المصري الراحل نجيب محفوظ الحائز جائزة laquo;نوبلraquo;، يسمع أحد الفراعنة عشيقته الجميلة رابوديس وهي تخبره عن شائعات باحتمال حدوث ثورة وعن مدى استياء الشعب: laquo;يقولون إن رجال الدين هم مجموعة نافذة تسيطر على قلوب الناس وعقولهمraquo;. لكن يبتسم الفرعون ويجيبها: laquo;لكنني الأقوى!raquo; فتسأله: laquo;ماذا عن غضب الشعب، مولاي؟raquo;. فيقول: laquo;سيهدأ غضبهم حين يرونني مارّاً بعربتيraquo;. سنرى ما إذا كان الفرعون المصري المعاصر سيتكيف مع شعبٍ مصمّم على التخلص منه والطريقة التي سيعتمدها لتحقيق ذلك.
* أستاذ في كلية جون هوبكينز للدراسات الدولية المتقدمة وأحد كبار المسؤولين في معهد هوفر.
التعليقات