بشير عبد الفتاح

أعادت التطورات المتلاحقة والتحولات المتسارعة التي تعصف بالمنطقة جراء الربيع العربي، والتي كان من أبرزها ارتباك علاقات أنقرة بتل أبيب ودمشق وطهران، بالتزامن مع سقوط نظام مبارك، وما تلاه من زيارة أردوغان المدوية للقاهرة، والتي اصطحب معه خلالها ثمانية وزراء بينهم وزير الدفاع، ووفداً اقتصادياً يضم أكثر من 280 رجل أعمال، وقعوا rlm;11rlm; اتفاقاً rlm;كما دشنوا مجلساً أعلى للتعاون الاستراتيجي المشترك، أعادت إثراء الجدل مجدداً في شأن مستقبل العلاقات بين تركيا laquo;الصاعدةraquo; ومصر laquo;الجديدةraquo;.

ويمكن القول استهلالاً إن نيات أنقرة لتعزيز التقارب مع مصر بدأت بالاختمار منذ العام 2002، مستندة على ما تتوقع حكومة العدالة والتنمية من فرص ومغانـم هائلة يطويها ذلك التقارب، كون مصر تعد سوقاً واعدة للمنتجات والاستثمارات التركية المتنامية، كما تتمتع بموقع استراتيجي متميز يجعل منها بوابة مهمة للأسواق الشاسعة والمصادر البكر للمواد الخام التي تعج بها القارة السمراء. ناهيك عن توافر ركائز حضارية وجيواستراتيجية مشجعة على تعزيز التقارب بين البلدين، اللذين يعدان أكبر قوتين اقتصاديتين وعسكريتين في المنطقة، علاوة على تنامي رغبتيهما المشتركة في تأكيد سيادة قرارهما في مواجهة الضغوط الأميركية والغطرسة الإسرائيلية من خلال تنسيق مشترك يكفل صوغ رؤية واضحة ومتكاملة لتعاون ناجز بين البلدين في هذا المضمار خلال المرحلة المقبلة.

وفي عرضه لتصور أنقرة في شأن مستقبل العلاقات مع القاهرة، أعلن وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو في مقابلة مع صحيفة laquo;نيويورك تايمزraquo; في 20 أيلول (سبتمبر) الماضي أن بلاده بصدد تدشين تحالف مع مصر laquo;الجديدةraquo; لتأسيس ما سماه laquo;محور ديموقراطيةraquo; جديداً في الشرق الأوسط. ولفت أوغلو إلى أن مصر ستصبح محور جهود تركيا في الفترة المقبلة، متوقعاً زيادة استثمارات بلاده في مصر من 1.5 بليون دولار إلى خمسة بلايين دولار خلال العامين المقبلين، وأن تزيد المبادلات التجارية من ٣.٥ إلى خمسة بلايين دولار قبل نهاية العام ٢٠١٢، وإلى ١٠ بلايين دولار في العام ٢٠١٥، مشدداً على أن بلاده ترغب في أن تكون مصر دولة قوية جداً من أجل توازن القوى الإقليمي. وأضاف أوغلو أن تركيا عرضت رؤية لإعادة ترتيب منطقة الشرق الأوسط سقطت فيها تحالفاتها السابقة مع سورية وإسرائيل، مقابل ازدهار التحالف مع مصر، وهو التحالف الذي يمكنه خلق محور جديد للقوة في وقت يتضاءل فيه التأثير الأميركي في الشرق الأوسط، الأمر الذي علقت عليه الصحيفة ذاتها بالقول: laquo;إن نظاماً جديداً في منطقة تموج بالثورات قد بزغraquo;.

ومن منظور آخر، يحق للمراقب الادعاء بأن جملة التطورات والتحولات الإقليمية التي ألقت بظلالها على المنطقة بجريرة الربيع العربي أعطت زخماً قوياً لمساعي حكومة أردوغان على درب الشراكة مع مصر، التي جاءت زيارته الأخيرة إليها متزامنة مع اتجاه شهر العسل التركي - السوري إلى الأفول بجريرة مواقف أنقرة من انتفاضة الشعب السوري ضد نظام بشار الأسد. فضلاً عن تفاقم التوتر بين أنقرة وتل أبيب عقب التسريبات الأميركية عن تقرير بالمر حول حادثة أسطول الحرية التركي، إضافة إلى احتدام الصراع في إقليم شرق المتوسط بين تركيا وقبرص التركية من جهة واليونان وقبرص اليونانية وإسرائيل من جهة أخرى علاوة على أطراف إقليمية لها مصالح وحسابات في الإقليم جلّها النفط والغاز كروسيا وإيران ولبنان ومصر.

الوضع الاقليمي

ووسط هذه الأجواء الملبدة بالغيوم، جاءت موافقة حكومة العدالة على نشر رادارات للدرع الصاروخية الأطلسية على الشطر المقارب لإيران وروسيا من الأراضي التركية، لتحرك الخلافات المزمنة والمخاوف الكامنة بين أنقرة وهاتين الأخيرتين. ففي حين نددت طهران بهذه الخطوة معتبرة إياها تواطؤاً تركياً مع الغرب وإسرائيل لمحاصرة بعض دول المنطقة وتهديد الأمن والاستقرار الإقليميين، ذهبت موسكو أبعد من ذلك حينما دلفت إلى معادلة الصراع حول ثروات إقليم جنوب شرقي المتوسط معلنة عن نيتها تقديم قرض عاجل لقبرص اليونانية بقيمة 2.5 بليون يورو لدعم مشاريعها الخاصة بالتنقيب عن النفط والغاز في الإقليم.

وفي السياق ذاته، لاحت محاولات الاصطفاف الإقليمى التي تقودها طهران ودمشق بالتعاون مع بغداد ضد التوجهات والمشاريع التركية الجديدة حيال سورية وإيران والهادفة إلى تعظيم مغانم أنقرة وتقليص خسائرها المحتملة من تداعيات الربيع العربي. فلقد حملت زيارة وزير الخارجية السوري وليد المعلم إلى بغداد نهاية آب (أغسطس) الماضي ومحادثاته مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بين ثناياها إيحاءات بجهود تمهيدية لحوار ثلاثي موسع يضم إيران بغرض بلورة استراتيجية حازمة لحمل حكومة العدالة على مراجعة مواقفها وحساباتها إزاء الدول الثلاث ومشاركتها في الدرع الصاروخية.

وكثيرة هي المؤشرات التي تعزز سلامة هذا الطرح، لعل أبرزها موقف المالكي الأخير والمفاجئ الذي يربط بين التزام حكومة العدالة بالتعهدات المائية الواجب على تركيا تقديمها للعراق من مياه دجلة والفرات ومصير معاهدة التعاون الاستراتيجي المبرمة بين البلدين. ناهيك عن تهديدات نظام بشار الأسد لحكومة العدالة باستخدام ما في حوزته من أوراق ضغط متعددة، ليس أقلها الورقة الكردية، لإجبار أنقرة على تعديل مواقفها تجاه ما يجرى الآن في سورية، وهي التهديدات التي تتناغم ومطالبات طهران المستمرة لأنقرة بضرورة مراجعة سياساتها الحالية إزاء سورية وإلا ستواجه مشاكل شتى.

وعلى رغم توافر عوامل مشجعة ومتنوعة على تعزيز التقارب بين مصر وتركيا، تطل تحديات عدة أمام الجهود المبذولة في هذا المسعى خلال المرحلة الحالية، منها ما يخص حساسية التوقيت، ومنها ما يتعلق بمدى جاهزية وحماسة الجانب المصري، ومنها ما يتصل بطبيعة التحول في السياسة الخارجية التركية.

ففي ما يخص عنصر التوقيت، تأتي التحركات التركية لتعزيز التقارب مع مصر حالياً في خضم الربيع العربي وما يفرضه من تغيرات جسام في هياكل وأشكال الأنظمة العربية ستترك لا محالة تأثيرات مهمة على بنية وتفاعلات المنطقة ككل، الأمر الذي سيفرض على الفاعلين من داخلها أو خارجها إعادة صوغ سياساتهم الخارجية واستراتيجياتهم بما يتماشى والواقع الذي لا يزال قيد التشكل.

ويبدو أن خصوصية التكوين الجيواستراتيجي وكذلك التركيبة الإثنية لمنطقة الشرق الأوسط وما تستتبعه من سياسات وتحركات إقليمية ودولية إزاء المنطقة مضافاً إليها التداعيات المحتملة للربيع العربي، تضافرت جميعها لوضع سقف محدد لأي تقارب تركي مصري يجعله حبيس العلاقات التجارية والوشائج الثقافية من دون أن يبلغ مستوى التعاون العسكري أو الشراكة الاستراتيجية. وهو ما بدا جلياً في عدم وجود تسريبات عن إبرام القاهرة وأنقرة أي اتفاق على أية صورة من صور التعاون العسكري أو الاستراتيجي بينهما إبان زيارة أردوغان الأخيرة لمصر على رغم وجود وزير الدفاع التركي ضمن الوفد المصاحب لأردوغان. ومن شأن حصر العلاقات التركية - المصرية في المجالات التجارية والثقافية فقط أن يقلص من العوائد التي يتوقعها طرفاه من ورائها خصوصاً في ظل افتقاد القاهرة للجاهزية والحماسة فضلاً عن تشعب علاقات تركيا وشراكاتها الإقليمية والدولية.

وفي ما يتعلق بجاهزية مصر وحماستها، يجوز القول إن من الصعب عليها خلال المرحلة الانتقالية التي تعيشها بلورة سياسة خارجية بعيدة أو حتى متوسطة المدى، سواء حيال تركيا أو في أي اتجاه دولي أو إقليمي آخر، وذلك بحكم خصوصية الظرف التاريخي المصري، حيث تشهد البلاد ثورة شعبية أطاحت رأس نظام حكم البلاد أكثر من ثلاثة عقود، وتتلمس سبيلها لإعادة بناء الأطر المؤسسية والدستورية التي تكفل الانتقال من مرحلة الثورة إلى وضع الدولة. ووضحت تداعيات هذا الأمر في احتكار الجانب التركي مبادرات ومشاريع الشراكة مع مصر، في ظل غياب شبه كامل لمبادرات أو تصورات مصرية مماثلة أو حتى رؤى واضحة للتعاطي مع تلك المبادرات وكيفية تفعيلها وتعظيم الاستفادة المشتركة منها.

محور للديموقراطيين

على صعيد آخر، يواجه طرح وزير الخارجية التركي داود أوغلو في شأن تشكيل laquo;محور للديموقراطيةraquo; بين أنقرة والقاهرة ليكون دعامة للشراكة بين البلدين ورافعة لتوازنات إقليمية جديدة، مشاكل عدة، أبرزها عدم اتساق معدل التطور الديموقراطي في البلدين، ففي الوقت الذي تمضي حكومة العدالة والتنمية بثبات نحو استكمال بناء جمهورية جديدة تنجز خلالها عملية التحول الديموقراطي عبر مشروع إصلاحي شامل يستند إلى إرث علماني ودستوري ومؤسسي ودعم غربي، لا يزال التحول الديموقراطي في مصر مستعصياً ومكبلاً بتعقيدات ومفاجآت المرحلة الانتقالية.

ويشكل استمرار الحساسية المصرية الرسمية حيال تركيا عقبة كؤوداً أمام شراكة فاعلة بين البلدين، خصوصاً أن خطب أردوغان وتصريحاته ولقاءاته المتلفزة والمنشورة التي أمطر بها المصريين إبان زيارته الأخيرة للقاهرة كانت تدعو إلى إرساء قيم الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان وتلبية مطالب الشعوب من أجل العدالة والكرامة والحريات، وهو خطاب قد لا يروق كثيراً للمجلس العسكري في مصر، خصوصاً أن لحكومة العدالة تجربة مدوية في تقليم النفوذ السياسى للجيش التركي ومناقشة نفقاته وموازانته السنوية وإضفاء الطابع المدني على مجلس الأمن القومي التركي وحصر صلاحياته في نطاق استشاري صرف بعد أن كان صاحب القول الفصل. واللافت في أمر الحساسية المصرية حيال تركيا أنها أضحت في الآونة الأخيرة تكتسب بعداً شعبياً، فخلال زيارة أردوغان الأخيرة لمصر وإعلانه موقفه الواضح الداعم للعلمانية والديموقراطية والدولة المدنية وتأكيده أن حزبه ليس إسلامياً، هرع الإسلاميون، الذين سبق ان استقبلوا أردوغان بوافر الترحاب، الى التعبير عن صدمتهم واستيائهم من تصريحاته منددين بما اعتبروه مساعي تركية فاشلة للهيمنة على المنطقة.

وفي ما يتصل بآليات صنع السياسة الخارجية التركية إزاء دول الربيع العربي وفي القلب منها مصر، تبرز حقيقة مهمة مفادها أن حكومة العدالة بلورت استراتيجية تصفير المشاكل وتعزيز الاستقرار والتعاون مع دول المحيط الإقليمي على افتراض بقاء الوضع داخل الدول العربية على ما هو عليه من حيث أنظمة الحكم المتشبثة بالسلطة والمهيمنة عليها، بيد أن الربيع العربي أفرز تحولات من شأنها أن تربك تلك الإستراتيجية التركية، لا سيما محورها الاقتصادي الذي يعد قاعدتها الأساسية. إذ قفز حجم التبادل التجاري بين تركيا والعرب من 7 بلايين دولار عام 2002 إلى قرابة الـ40 بليون دولار عام 2008 مع توقعات تركية لبلوغه 100 بليون دولار في غضون سنوات قليلة. وهو الأمر الذي دفع محللين أتراكاً وغربيين للتكهن بأن الربيع العربي قد يزج بأنقرة للعودة إلى محيطها الغربي وإسرائيل بسبب حالة الصيرورة التي تخيم على المنطقة والتي قد لا تصب مخرجاتها بالضرورة في مصلحة الأتراك وإن على المديين القصير والمتوسط.

وما بين فرص وتحديات تكتنف الإستراتيجية التركية الجديدة الرامية إلى إعادة هيكلة علاقات أنقرة وتحالفاتها الإقليمية، خصوصاً مع القاهرة، في وسعنا الادعاء بأن احتمالات نجاح هذا المسعى، تبقى مرتهنة، إلى حد كبير، بأمرين مهمين: ينصرف أولهما صوب إمكان تحويله من مجرد توجه ظرفي ضمن برنامج حكومة أو ردود فعل حزب حاكم في بلد متقلب المزاج كتركيا على اصطفافات وتحولات إقليمية مرحلية مباغتة، إلى مشروع دولة متكامل ومتواصل، حيث لا يتوارى أو يتجمد حاله ما إذا أفل عهد حكومة حزب العدالة والتنمية، خصوصاً أن هناك تياراً لا يستهان به داخل تركيا لا يزال يشكك في جدوى تعزيز التقارب مع الدول العربية على حساب علاقات تركيا بإسرائيل والغرب، لا سيما في ظل التداعيات الغامضة المحتملة للربيع العربي.

أما ثانيهما، فيرتبط بمدى نجاح مصر laquo;الجديدةraquo; في التخلص من حساسياتها المزمنة حيال تركيا وتجربتها اللافتة، والتحرر من إسار الضغوط والإملاءات الخارجية، والتخلي عن التردد والرهانات الخاطئة على سياسة الوضع القائم، والعمل بدأب ووعي لدراسة المبادرات التركية توطئة لتفعيلها وإعادة تكييفها وتوسيع مجالاتها على النحو الذي يعود بالنفع العميم على طرفيها.