في غمار جدل سياسي سأل أحد النواب وزيرا :
- هل تستطيع أن تدلني على شخص طاهر لم يلوث؟
- فأجاب الوزير متحديا.
- إليك - على سبيل المثال لا الحصر - الأطفال والمعتوهين والمجانين فالدنيا ما زالت بخير.
(نجيب محفوظ)

آن الآوان أن تتشح مصر بسواد سيشكل خلفية المشهد الاجتماعي والسياسي لفترة لا يعلم مداها إلا الله والمسؤولون عن مقدرات هذا البلد، الذي يتساقط على رؤوسنا تدريجياً.جريمة جديدة تضاف إلى سجل الإدارة الفاشل الذي ألقته الصدفة على قارعة الوطن فظنناه طوق نجاة، بداية بحكومة تثير الغثيان وصولاً لعسكر قرروا أن يتصدروا كل المشاهد السياسية، فلم يصدروا إلا هيبتهم ومن يحققها لهم، بغض النظر عن حق كل مواطن استأمنهم على أحلامه التي سرقها أسلافهم بفساد زرعوه لنحصده دماً.
أقباط عانوا عقوداً من تهميش لمسناه ولم نحرك له ساكناً، بل ساهمنا جميعاً بشكل أو بآخر في تجذيره في العقل المصري، لدرجة جردت الأغلبية الشعبية من أي تعاطف أو اعتراف بحق فصيل مصري أصيل في الحياة، فضلاً عن الحقوق السياسية والقانونية، والتي كانت بالتبعية مسلوبة من الجميع، ولكننا تناسينا ذلك وقررنا أن نكون نحن أشد الناس عداوة لأنفسنا المجسدة في الأقباط.وسلمناهم على مذبح النظام البائد تارة، وتارة أخرى على مذبح السلطان الجديد، وكأننا حولناهم إلى يونس الذي توهمنا أننا لو ألقيناه من سفينة الوطن سيفيض الخير علينا، وسنصل لشاطئ النجاة، ولكن للأسف سنؤكل يوم اُكل الثور الأبيض.
الفتنة المصرية ذات الجذور التاريخية بين الأقباط والمسلمين، والتي أسسها الحكام باختلاف أشكالهم وأجناسهم لفض نسيج هذا الوطن، وساهمنا نحن فيها بأصولنا العصبية الطائفية، تحولت بشكل ما إلى تواطؤ على مصير وطن بأكمله، فالجماعات الإسلامية التي عانت من قهر الأمن وأعوانه، وغياهب السجون وذلتها، حينما فرج الله كربهم بعد ثورة تقدم رهانات فشلها يوماً بعد يوم، قرروا أن يفرغوا ماعون غضبهم على كنائس ودور يرفع فيها إسم الله، لمجرد أنها تخالف شريعتهم أو ما يظنون أنه الحق.وبدلاً من التوحد تحت لواء الوطن الواحد بكل أطيافه ومذاهبه، عقدوا صفقات تقربهم من جلاديهم، في حالة فصامية حادة من مخلفات أيام العذاب التي شوهتهم.
الفتنة التي تبدأ دائماً دينية في مصر مهد الديانات، لتنتهي بدماء مصرية كذلك، ليس المسؤول عنها فقط التيارات الإسلامية وتخاذل الدولة عن تطبيق القانون، وصلف المجلس، بل الأقباط أنفسهم يتحملون نصيبهم من المسؤولية التاريخية، فبعد عقود نسيانهم لحقوقهم، وتسليمهم بكامل إرادتهم لنظام تواطأ ضدهم مع رموز الكنيسة، وغيابهم أو تغيبهم عن الساحة السياسية أو حتى الحضور المجتمعي، يريدون الآن استرداد ما سُلب!!، في حالة من الغضب العشوائي، جعلهم عرضة لجملة من الاتهامات بداية بالعمالة، أو استغلال لبعض رموز الفتنة في الداخل أو الخارج، وصولاً للمتاجرين بحقوقهم على شاشات الفضائيات والساحات الدولية.فقضية الأقباط هي مشكلة مصرية وليست فقط دينية، وأي محاولة لوضعها في إطار ديني ستؤدي لخسارة كل الأطراف، والأقباط على رأسهم.
والغريب أنه رغم كل الاحتجاجات الفئوية والعرقية والدينية التي تغرق مصر لأذنيها في دوائر التيه، لم يفكر المجلس العسكري أن يُرسل جنوده ليفضوا كل تلك التجمعات بنفس مبدأ القوة، بداية بإحتجاجات قنا على تعيين محافظ مسيحي، وصولاً لاضراب سائقي النقل العام، تجنباً أن يضع نفسه محل المسائلة الشعبية أو التاريخية، رغم ما تسبب فيه ذلك من تسيب وعدم احترام لهيبة الدولة، ولكنه كان يعلن دائماً أنه يقف على نفس المسافة من كل الأطراف، فأين هذه المسافة من احتجاجات قبطية عبرت عن غضبها بطريقة لم تهدد من خلالها أنها سوف تغلق محافظات مصر كما أعلنت أحزاب بقايا نظام مبارك، كرد فعل على قانون العزل السياسي، ولم تحتل محافظة بأكملها كما حدث في قنا؟!!، لماذا قرر الجيش أن يصنع ثأراً بينه وبين أبناء وطنه !!، أي قيادة تلك، ولمصلحة من !!، سؤال سيظل يطرح نفسه بإلحاح يليق بحرب أهلية قد تكون على وشك الحدوث.
هل إقرار مبدأ القوة سيكون ضحيته الأقباط فقط !!، ففي مقال سابق لي تحت عنوان (أقباط وأحزاب وعسكر) والمنشور قبل أحداث ماسبيرو بيوم واحد، رأيت أن الساحة المصرية ستُحكم بمبدأ القوة وليس العدل، وهذا ما يقع الأن بمنتهى الصلف، فكما يظهر البلطجية في خلفية كل مشهد مأساوي، يظهر التيار الديني ليس فقط تحت عباءة الجامعات، التي ترقب عن كثب الأحداث لتحدد أين الصفقة القادمة، ولكن في مظهر شعبي متأثر بخطاب شيوخ الفتنة الذين يحرمون على المسيحين عيشتهم أو وجودهم إن صح التعبير، فيظهر بعض من الجهلاء منادين quot; النصارى فين المسلمين أهم quot; !!، أليس هذا من مبدأ استعراض القوة!، خاصة ونحن نعاني منذ عقود من غياب لأي خطاب ديني معتدل، بل أن الأزهر ذاته قد ساهم في إزكاء روح الفرقة بتصريحات تكشف عن توغل الفكر المتحجر في بنيته الأصيلة.
وفي ظل خطاب سياسي لا يسمن ولا يغني، ورموز ثقافية وإعلامية فاشلة تساهم في تأجيج نار الفتنة، وقيادة تبدو أنها تحكم وطناً أخر، وشعباً يتعاطى مع ثورته وكأنه فاز بها في الياناصيب، ولم يدفع ثمنها عقود بل قرون من الظلام، فينتظر وكعادته أن يُمنح بلا عمل، ويأخذ دون ثمن.سيكون مصير هذا الوطن هو الضحية الوحيدة، فلا نلومن إلا أنفسنا إذا جاء يوم ـ وهو قريب ـ يحكمنا فيه من قررنا أن نثور ضدهم، فأعطيناهم مفاتيح حكمنا من جديد.
يا سادة العيب فينا منذ البداية، لم يكن يوماً في نظام أوحاكم، فكيفما نكون يُولى علينا، فأنا لست من محترفي عبادة المؤامرات، وإلقاء تبعات كل مآسينا على أعتابها، ففتن الدم التي يضيع بسببها أبناء وطن بأكمله، ووجع الحسرة التي يشعر بها الآن مصريون أرادوا فقط حق الوجود، وشبح الحروب الأهلية، كلها من صنيعتنا. أفيقوا يرحمكم الله، فعلينا جميعاً أن نتعلم كيف نحيا تحت سماء واحدة لن يظلنا إلا ظلها.

أكاديمي مصري
[email protected]