حين إنطلقت ثورة تونس وحققت quot;الإنجاز الاولquot; بإسقاط بن علي، كان الواقع أكبر من أن يتم إستيعابه. شعب عربي يتحرك ويتخلص من رئيس قبع على كرسيه لعشرات السنين. ثم تحركت مصر، وكان الحلم يكبر، هل نحن حقا في زمن الثورات الشعبية، هل سيكون العالم العربي مكانا أفضل للجميع؟ كان الأمل كبيرا.. وفجأة بدأ الواقع يطل بوجهه القبيح.
الحقائق ليست بالرومانسية التي صورت على شاشات التلفزة وعلى صفحات الجرائد.
في تونس كانت الأحداث مباغتة للجميع، كان تحركا شعبيا لم تتمكن السياسة من اللحاق بركبه حينها، في مصر كانت مزيجا من تحرك شعبي مع تدخلات سياسية.. وفي البلاد الاخرى من ليبيا إلى اليمن إلى البحرين إلى سوريا فإن الأمر تحول إلى صور أخرى.
ماذا قدمت المعارضات العربية في الدول التي شهدت حراكا شعبيا لبلادها ولشعوب الدول العربية إلى الأن، هل قدمت صورة مغايرة للأنظمة التي تسعى إلى إسقاطها أم أنها نسخ مشابهة بأجندات مختلفة وبدكتاتورية أقل بدرجة أو درجتين تحت مسميات الحرية والديمقراطية.
التيارات الإسلامية والعلمانية وتلك التي تقبع في الوسط وكل حركة أو تيار تحت مسمى المعارضة جميعها تعاني داء عدم تقبل الآخر. الأمر الذي كانت الشعوب العربية quot; تشوح وتنوح quot;منه لسنوات وسنوات إتضح أنها هي نفسها تعانيه. إن خرج معارض إنتقد أو خالف رأي معارض آخر فهو إما خائن أو منقلب على مبادئ الثورة، هذا حال أهل quot;الصف الواحدquot; في ما بينهم، أما تصنيف من يسير في الخط الآخر فهو أكثر عنفا وعدائية، إن لم تكن معنا فلا تستحق الحياة وصوتك يجب الا يسمع إطلاقا لا بل فحتى وجودك مزعج ومقزز.. كيف يجرؤ من يؤيّد رئيسا تنحى أو أسقط على الخروج اصلا؟!
ثم لدينا حكاية اللوائح السوداء، لنفترض أن هذه الفكرة إنطلقت من مجموعة صغيرة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الجميع لكن الواقع الذي لا لبس فيه أنها لاقت رواجا منقطع النظير في مصر وإنتقلت إلى الدول الاخرى. فالأرضية ما زالت خصبة جدا quot;لتهميش الآخر quot; ولقمع المختلف بموقفه السياسي.. فلان على اللائحة قاطعوه وقاطعوا أعماله.
أي مبدأ ديمقراطي هذا الذي يهمّش مواطنًا آخر بسبب رأيه وموقفه السياسي، ألم يكن هذا جوهر الخلاف مع الأنظمة السابقة! ليس دفاعا عن أحد، لكن المبدأ العام لا يمكن التلاعب به، إما التأسيس لفكر عام ديمقراطي قائم على تقبل الآخر وتقبل الاراء السياسية لكل الفرق، أو الرفض والتهميش والقمع تحت شعار quot;الثورة ومن أيّدها ومن لم يؤيّدهاquot;.
الشعوب العربية تقف حاليا على مفترق طرق مصيري، ولا يبدو أن التوجه يسير نحو الديمقراطية التي قتل الالاف إلى الان تحت شعارها.
القمع الذي مارسته السلطة قوبل بعنف مضاد، أهي حكاية دفاع عن النفس أم تنفيذ لمقولة أن العنف يولد العنف، الأمر غير واضح تماما في ظل إعلام يخرج ما يناسبه من حكايات ويتحفظ على حكايات اخرى.
في مصر تحدثت والدة أحد رجال الشرطة الذي كان نصيبه من الثورة أنه التزم بأوامره وبقي في مركزه، فقتل حرقا. يتحدث زميل له نجا من الحريق أنهم كانوا يتضرعون للمهاجمين بأن يتوقفوا لأنهم غير مسلحين، صرخات لم تجد صدى لدى أناس فقدوا القدرة على التمييز بين رجل أمن يشهر بوجههم السلاح وبين رجل أمن غير مسلح.
أما المعارضات السياسية الحزبية، التي ناورت وحاولت اللعب على حبلي الثورة والنظام قبل تنحي مبارك، تبدو عاجزة اليوم بقدر ما كانت عاجزة خلال ثورة مصر.
في سوريا حكايات عن عنف، المعارضة تلوم السلطة والسلطة تقول أن مجموعات مسلحة تمارس أعمالا تخريبية. المعارضة تبث صورها والسلطة تنشر ما لديها. تسأل موال للسلطة فلا يجيب سوى بأن المعارضة تخرب، تقول له إن أعداد القتلى تدلّ على ان السلطة لا تميز بين quot;مسلحquot; وبين متظاهر سلمي، فيأخذك مباشرة الى نظرية المؤامرة على سوريا وعن تورط المعارضين فيها.
تسأل معارضا عن قتلى الجيش، فيجيبك بأن الجيش يقتل بعضه البعض، تسأله عن أعمال التخريب فيقول لك النظام يقوم بذلك. تخبره عن صور بثت عن جماعات معارضة ترمي جثث رجال أمن في النهر، يقول لك هؤلاء من رجال السلطة يرمون معارضين. تريه مقاطع مسجلة لرجل يقوم quot;حرفياquot; بتقطيع رجل آخر بسيفه وهو يردد أن هذا مصير الشبيحة، يقول لك هذا رجل أمن تابع للسلطة يقتل معارضا.
حالات خاصة ؟ قد تكون كذلك، وقد تكون حالات خاصة لفكر عام منتشر، وهنا المعضلة ليس في سوريا فقط بل في كل الدول التي تشهد حراكا شعبيا.
المعارضة السورية السياسية على صعيد المجموعات والأحزاب وفي المؤتمرات التي عقدتها فشلت في التوحد والإتفاق، لا وبل كان العراك على المقاعد والمناصب قبل سقوط النظام وقبل أن تبرد جثث الضحايا. ناهيك عن الوجوه التي خرجت من العدم وتحولت بين ليلة وضحاها الى نجوم تلفزيونية تتحدث بإسم هذا أو ذاك بينما لا تمنح أصوات الداخل المساحة التي يستحقونها. وليس صحيحا أن وجوه الداخل لا يمكنها الحديث، وانما الأصح أن أصوات هؤلاء وأفكارهم لا تناسب الفضائيات التي تعمل وفق اجنداتها الخاصة.
المحصلة أن المعارضة أو على الأقل الواجهة الإعلامية للمعارضة السورية تستعمل أساليب السلطة نفسها. لذلك فالصورة غير واضحة ومربكة. السلطة لا تقبل التشكيك بما تبثه، والمعارضة تعتمد الأسلوب نفسه. لا يمكنك مناقشة موال للسلطة ولا يمكنك مناقشة معارض. الطرفان لا يقبلان أي تشكيك أو أي إفتراض بأن أحدهم قد يكون مخطئا في نقطة ما أو في مقاربة ما.
في اليمن، الحاضرة المغيبة، تلعب السياسة لعبتها القذرة. أما البحرين، والتي يحدث فيها ما يحدث من إعتقالات ومحاكمات وقتل تحت أنظار الجميع دون أن يحرك أحدهم ساكنا، فتم تحويل التظاهرات فيها الى quot;أزمة طائفيةquot;.
أما ليبيا، فما أدراك ما ليبيا التي تحول الحراك الشعبي فيها بين ليلة وضحاها إلى مواجهات مسلحة. حسنا، الأمور مختلفة في ليبيا ولكل بلد خصوصيته. ثم جاء تدخل الناتو جوا وبحرا وبرا بغطاء عربي وكأن عراقا واحدا لا يكفي.
الثوار يتحدثون عن قتل ومجازر بحقهم، في المقابل تخرج الصور والأخبار عن مجازر أرتكبت من قبلهم بحق من كان يقاتل للدفاع عن القذافي. وآخرها كانت صور الإعدام الجماعي لمقاتلين تابعين للقذافي، هكذا يتم وصفهم، وكأنهم ليسوا بليبيين وكأن المأساة لا تكمن في أن ليبيًّا يقتل ليبيًّا آخر. أما المرتزقة وأصحاب البشرة السمراء من الافارقة فباتوا يعانون الأمرين من العنصرية الممارسة بحقهم بحيث يتم وضعهم في quot;مخيمات quot; ويتعرضون للمضايقات والملاحقة سواء أكانوا متورطين أم لم يكونوا كذلك.
خلال الإحتفالات التي عمت الساحة الخضراء خرجت صورة أحد المحتفلين وهو يحمل العلم الاميركي و يقبله ويحتضنه.. في الوقت عينه كان quot;القائد الميداني في طرابلس quot; يتحدث الى إحدى الفضائيات عن العلاقة مع المجلس الإنتقالي وهو يفسّر موقفهم من القرارات التي يتخذها المجلس الانتقالي والتي قسمها إلى قسمين، القسم الاول التي ترضي الله وهي مقبولة أما الاخرى فهي التي لا ترضي الله والتي تستدعي نصحا من قبلهم للمجلس. مزيج لا يزيده تعقيدا الا الصراع العلني على النفط الليبي ومخططات دول عربية- لسبب أو لآخر لم تتحرك شعوبها- تدعم هذا وتحرض ضد ذاك.
لست من مؤيدي السلطات الحاكمة، لم أكن يوما ولن ابدأ بدعمها وتأييدها الان. كنت من اؤلئك الذين يتمنون لو أنهم ولدوا في زمن غير زمن الخنوع هذا، ثم حلت علينا الثورات، وأي بديل جاء وأي أنظمة صمدت الى الآن.
بديل لم يظهر دلالة واحدة تشير إلى أنه يختلف عن السلطات التي يسعون إلى الإطاحة بها. ربما المشكلة الأساسية تكمن في الواجهة التي تفاوض وتناور وتعقد الصفقات هنا وهناك، ربما الشارع مختلف تماما عن هذه الوجوه التي نصبت أنفسها ناطقة باسمهم.
الأمل الأخير يبقى بأن يكون الشارع حقا مختلفا، وأن يكون على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقه. هنا مفترق الطرق، إما دول مدنية ديمقراطية، أو تلك الوجوه التي لا تختلف كثيرا عمّن أطيح بهم وعمّن يسعون للإطاحة بهم.