أن تهدم بيتاً قديماً أسهل من أن تبني بيتاً جديداً..والهدف المفترض لاندلاع الثورات ليس هو التخلص من نظام استبدادي قائم وحسب، بل هو إنشاء نظام ديمقراطي تعددي حقيقي، وترسيخ مؤسسات المجتمع المدني لتكون ضمانةً ضد الانتكاس ثانيةً..فإذا اقتصرت الثورات على هدم القديم دون بناء الجديد فإنها لا تكون قد حققت شيئاً، ولم يزد فعلها عن فعل من أخرج عائلةً من بيتها القديم وهدمه وتركهم على قارعة الطريق دون مأوىً يواجهون حر الصيف وبرد الشتاء..

لا نقلل من أهمية ما تم إنجازه حتى الآن في دول كتونس ومصر وليبيا من إسقاط للأنظمة، ومدى الجهد والشجاعة التي احتاجها هذا الإنجاز، لكن الخطورة هي أن تستغرقنا الحالة الراهنة وتسكرنا نشوة تنحي الرئيس أو هروب القائد فنظل فرحين منتشين وكأننا حققنا كل ما كنا نصبو إليه، ونغفل عن أنه لا يزال بانتظارنا الكثير من العمل قبل الوصول إلى حالة الاستقرار واستكمال تحقيق أهداف الثورة.

إسقاط الأنظمة الاستبدادية ليس سوى الخطوة الأولى في طريق شاق وطويل، فإذا ما تم إنجازها توجب علينا أن نتجاوزها سريعاً وأن نتطلع إلى الأمام لا رجوع-حسب تعبير القذافي-باحثين في الخطوات العملية التالية مستفيدين من الروح التي صنعها ذلك الإنجاز في استكمال تحقيق سيرنا نحو التنمية والبناء والتطوير والنهضة..

لا شك أن الشعوب العربية التي نجحت في إسقاط أنظمتها حتى الآن قد أبدعت إلى حد كبير في هدم النظام السابق ، لكن سلوك فريق من هذه الشعوب في مرحلة ما بعد الهدم بدا كسلوك صبي مراهق وقع بين يديه فجأةً كنز ثمين فاحتار كيف يتصرف فيه وغلبته نشوة الفرح وظلت هذه الحالة مستوليةً عليه لا يتجاوزها ليفكر بهدوء كيف يخطط للاستفادة من هذا الكنز وتنميته حتى لا يضيع..

في مصر ما إن بدأت مرحلة ما بعد حسني مبارك حتى طفت على السطح مطالب للثوار من قبيل: محاكمة مبارك ورموز نظامه، حل الحزب الوطني الحاكم ومصادرة أملاكه، محاكمة قتلة الثوار، ونحن لا نناقش في شرعية هذه المطالب، لكن هذه المطالب تتسم جميعها بأنها مطالب هدمية وليست مطالب بنائية، فالقاسم المشترك بينها أنها تقوم على محاكمة الماضي والتشفي منه والانتقام من كل ما له صلة به، بينما كان الأولى أن تتركز مطالب ما بعد تنحي مبارك على جانب البناء من قبيل المسارعة في إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية-تعمدت تقديم الرئاسية على التشريعية- ، والتأسيس لحوار وطني شامل، وعقد مؤتمرات لبحث سبل نهضة مصر واستعادة مكانتها الإقليمية والدولية، والإصرار على تجريم أي مظهر من مظاهر الاستبداد يمارسه المجلس العسكري الأعلى، فإذا ما تحققت مثل هذه المطالب فإن الماضي سيذوب ويتلاشى كتحصيل حاصل في ظل مصر الجديدة..

هذا الانشغال بهدم الماضي والانتقام منه ربما أتى موافقاً لأهواء العسكر الحاكمين في مصر، لأن من شأنه أن يشغل الجماهير عن قضيتهم الأساسية وهي المطالبة بتسليم السلطة إلى قيادة منتخبة وهو الجزء الذي لم يكتمل بعد من الثورة، كما أن من شأنه أن يطيل أمد حالة الفوضى وغياب الاستقرار في مصر مما يفقد الثورة حاضنتها الشعبية، ويعزز مشاعر الخيبة والإحباط في نفوس الجماهير، ويهيئ الأجواء لبقاء المجلس العسكري على هرم السلطة والتنكر لوعوده بتسليم السلطة إلى قيادة مدنية في غضون أشهر قليلة، وتعطيل مسيرة التحول نحو الديمقراطية، وهو الأمر الذي يعني إفشالاً للثورة برمتها..

من بواعث القلق أنه بعد مرور تسعة أشهر على الثورة لم يتم حتى الآن تحديد موعد للانتخابات الرئاسية، وهذه الفترة الطويلة لم يكن لها ما يبررها وكان يمكن أن تجري الانتخابات الرئاسية قبل أشهر من الآن، وإذا كان التعذر في عدم تحديد موعد للانتخابات الرئاسية هو حالة الفوضى الأمنية، فإن هذه الفوضى تحديداً هي المبرر لإجراء الانتخابات وليس لتعطيلها، لأنه لن يكون هناك استقرار حقيقي إلا بعد تولي السلطة من قبل رئيس منتخب..

ليس من المعقول أن يستغرق لعن الماضي كل جهود الشعب المصري ، بينما التحديات أمامه لا تزال ماثلةً وخطيرةً، وبينما ثورته لا تزال في منتصف الطريق، ولا يزال ينتظره الكثير من العمل من أجل بناء المستقبل وإجراء عملية تنمية شاملة تقود مصر إلى نهضة حقيقية في كافة المجالات..

في ليبيا المجاورة غرباً ورغم ما يبدو من اختلافات كبيرة بينها وبين الحالة المصرية إلا أن وجه التشابه بينهما هو الانشغال بهدم الماضي ولعنه عن بناء المستقبل..حتى أنك تشعر أحياناً بأننا نحن العرب نجد لذةً في البقاء في دائرة الهدم واللعن لأننا لا نملك أن نتجاوزها إلى ما بعدها، وأن كل طاقتنا الإبداعية نستهلكها في محاسبة الماضي، وأننا نخشى تجاوز هذه المرحلة إلى مرحلة النهضة والبناء لما تقتضيه من جهد وتفكير، فنلجأ إلى مخادعة أنفسنا بأننا لم ننجز هدم الماضي بعد، وأننا لا نزال نلاحق الفلول ونطهر الجيوب، لنبرر لأنفسنا البقاء في تلك الدائرة لا نتجاوزها..

في ليبيا كان يفترض أن يشكل دخول الثوار طرابلس المعركة الأخيرة في مرحلة إسقاط نظام القذافي، ليتم التفرغ بعد ذلك سريعاً إلى مرحلة البناء وإعادة التعمير، وتأسيس نظام مدني جديد.. وما تبقى من فلول شاردة فإنه يتم التعامل معها تعاملاً أمنياً محدوداً دون أن تكون هي القضية الشاغلة في المرحلة الجديدة..

لكنننا نلمس تضخيماً متعمداً لحجم المخاطر الأمنية المتبقية، مما يعني إشغالاً إضافياً للشعب الليبي عن التفرغ لمهمة البناء والتعمير، ونشعر وكأن الإعلام يمارس دور السحر لإعادة بث الحياة في صفوف كتائب القذافي وعدم السماح بانهيارها، وقد ساهم هذا الإعلام بطريقة تصويره لمقاومة كتائب القذافي في استعادة هذه الكتائب شيئاً من عافيتها في بعض المدن مثل سرت وبني وليد.

ولا يبدو أن دور دول حلف الناتو بريئاً، بل إنك تشعر أن هناك دفعاً في اتجاه إبقاء الأوضاع في ليبيا مخلخلةً غير محسومة لتبرير التدخل وبسط السيطرة فيها، فبمجرد الإعلان عن دخول الثوار طرابلس صرح مسئولون غربيون بأن القذافي فقد الجزء الأكبر من سيطرته، وقد كان التصريح الأكثر منطقيةً أن يقال بأن القذافي قد انتهى، كما أن حلف الناتو أعلن عن تمديد مهمته ثلاثة أشهر إضافية، وأعلنت بريطانيا عن إرسال فريق من الخبراء للبحث عن أسلحة القذافي، كما يرجح بأن الطائرات الغربية تغض الطرف عن مكان وجود القذافي، وتتعمد ألا تستهدفه حتى لو لاحت لها الفرصة، وكل هذه المواقف تدلل على أن الغرب معني ببقاء خطر القذافي قائماً لتظل ليبيا في حالة استنزاف وانشغال، وليكون هذا الواقع غطاءً للتدخل الاستعماري والتغلغل في ليبيا والسيطرة على مواردها..

لكن سواءً كانت هناك أدلة مادية متوفرة على تورط الغرب وتشجيعه لإطالة أمد حالة عدم الاستقرار في بلاد الثورة أو لم تكن، فإن من الثابت سياسياً أن الغرب غير معني بإقامة نهضة وتنمية حقيقية في البلدان العربية، لأن هذه التنمية هي التي تهدد مصالحه وأطماعه، وأن الاستغراق في الانشغال بالماضي أهون عليه من التطلع نحو المستقبل، ويبقى السؤال: ماذا نحن العرب فاعلون؟؟..

لقد أبدعت الشعوب العربية في صناعة البطولة والتضحية في ميادين التحرير والتغيير، وهي الآن مطالبة بالإبداع في التخطيط وصناعة الحياة، والبطولة وحدها لا تكفي وإذا لم تكن مقرونةً بالوعي الكافي والتنبه للمخططات والمنزلقات فإنها قد تضيع سدىً .

أولوية الشعوب العربية اليوم ليست في الانشغال بالماضي بل هي في التطلع نحو المستقبل وبدء خطوات البناء والتعمير وإقامة الحكم السياسي الرشيد وما لم يتحقق هذا الهدف فإن الثورات ستظل ناقصةً وربما تنتكس وتعود إلى نظام استبدادي أسوأ من النظام القديم..

والله أعلم..

[email protected]