حين تتشكل الأحزاب والتنظيمات في أي مجتمع فإن هدف قيامها يكون هو السعي لتحقيق أهداف عليا للمجتمع، أي أنها تصب في خدمة المجتمع، ولا شك أن العمل المنظم ضروري لتسهيل تحقيق الأهداف وحشد الطاقات، لكن هذه ليست حقيقةً مطلقةً فكما أن للتنظيمات محاسنها فإن لها مساوءها الخطيرة أيضاً.

يبدأ الخلل في وظيفة التنظيم حين ينسى أبناؤه مع طول الأمد بأنه مجرد وسيلة، فيتحول إلى غاية مقصودة بذاتها، ويتمحور التنظيم حول ذاته ويتضخم الاهتمام به على حساب الهدف الذي قام لأجله. وحين نصل إلى هذه الحالة فإن الأهداف المبدئية تتأثر ويتراجع الاهتمام بها، فيكثر من ذكر اسم التنظيم ويقل ذكر الغاية العليا التي من أجلها قام التنظيم، والمحزن أن البشر حين يقعون في هذا الانحراف الخطير فإنهم يمتلكون قدرةً عجيبةً على التبرير فإذا هاجمت التنظيم أو انتقدته اعتبروا ذلك انتقاداً للمبادئ الوطنية أو القومية أو الدينية فإن قلت لهم إن التنظيم ليس نسخةً مطابقةً للمبدأ بالضرورة، قالوا لك إن التنظيم يعمل لتلك الأهداف فبذلك يصبح التنظيم صورةً مثاليةً تعكس المبادئ ويلغى أي احتمال للخطأ والقصور في أدائه ولا يمكن تفسير أي نقد للتنظيم إلا بأنه نقد للمبدأ..

هذا الانحراف يذكرنا بالمشهد القرآني الذي يتحدث عن الذين يبررون عبادتهم للأصنام بأنها تقربهم إلى الله quot;ما نعبدهم إلا ليقربونا إلا الله زلفىquot;، فكان المدخل هو التقرب إلى الله وهو الغاية العليا، ثم تحولت وسيلة التقرب إلى غاية مقصودة لذاتها..

ومفهوم الصنمية الذي يتناوله القرآن عميق في حياتنا، فالصنمية تعني الجمود، والتوقف عند الأشكال وعدم تجاوزها إلى الغاية، وحين يعكف الأفراد على تنظيمهم ولا يتجاوزونه إلى ما وراءه من أهداف كبرى، ويصير هو محور الاهتمام والاعتناء فإنهم بذلك يدخلون حالة الصنمية.

من مساوئ التنظيم أنه يستنزف طاقات عناصره في الأعمال الروتينية والأنشطة التنظيمية مما يشغلهم عن الانتباه إلى الأهداف الكبرى، فمثلاً حين يقوم تنظيم فإنه يعلن من أول يوم أنه قام من أجل تحقيق أهداف وطنية أو قومية أو دينية، لكن هذا التنظيم حتى يرسخ وجوده على أرض الواقع فإنه يولي اهتماماً بالأمور الإجرائية والتنظيمية التي تستنزف مساحةً كبيرةً على حساب الاهتمام بالفكرة، فيبدأ بافتتاح المكاتب والمقرات، وتشكيل اللجان والتقسيمات الإدارية، وتوفير المتطلبات اللوجستية، والبحث عن التمويل، وحفظ الأموال واستثمارها، ومراقبة الأداء التنظيمي، وإقامة الأنشطة والمهرجانات والفعاليات، وكل ذلك يتطلب تفريغ عناصر كثيرة من أبناء التنظيم، وهؤلاء بدورهم يصير لهم متطلبات جديدة، فيحتاجون إلى من يقوم بمهمات توفير الطعام والشراب لهم، والتأثيث والمشتريات والنظافة والصيانة، والسكرتارية، وهكذا تضيق الدوائر أكثر فأكثر وتتشعب الأعمال وتتسع، وأغلب هذه الأعمال التي يفرغ لها التنظيم أبناءه هي أعمال روتينية أو إدارية بعيدة عن روح الإبداع وعن جوهر الفكرة، فيستنزف الأفراد في هذه المهمات على حساب الإبداع وتفتح الآفاق للتقدم بالفكرة إلى الأمام، وكلما غلبت الأعمال الروتينية، كلما تعطلت طاقات الأفراد الإبداعية وضاق أفقهم، وصاروا أقل قدرةً على استشراف آماد أوسع، وبذلك تنتج عناصر مقلدة لا تفكر ولا تبدع ولا تضيف جديداً.

مثلاً حين يقرر الحزب تنظيم نشاط معين مثل مهرجان فإنه يستنفر عناصره للتجهيزات الفنية لهذا المهرجان مثل توفير الكراسي ونصب المنصة وتجهيز الحافلات وغير ذلك من التفاصيل التي تستغرق جهد الأعضاء وأوقاتهم حتى تفقدهم الرؤية الواسعة الشاملة، فليس متوقعاً مثلاً من فرد انشغل كل وقته وجهده بالإخراج الفني لساحة المهرجان أن يتبقى لديه وقت في غمرة انشغاله للتفكير بأساس الموضوع، عن جدوى هذا المهرجان، وهدفه السياسي وإن كان من الحكمة عقده في هذا التوقيت أم لا، رغم أن هذا الفرد على صعيده الشخصي ربما يكون ذكياً ومبدعاً، ولكن انشغاله بالتفاصيل ضيق أفقه، واستنزف ذكاءه في أمور أقل أهمية. وهذا المثال ليس إلا لتقريب المعنى، وهو صورة مصغرة عما يفعله الانشغال بالتنظيم من إضرار بالإبداع الفكري.

الانشغال في التفاصيل التنظيمية يقتل الإبداع عند الإنسان ويفقده زمام المبادرة، فيصبح لدى التنظيم جيوش من المقلدين الذين لا يفكرون فيصبحون عالةً على المجتمع، ويتحول التنظيم ذاته إلى عائق أمام حركة تقدم المجتمع..

من مشكلات التنظيم أنه بطيء الحركة إلى درجة قاتلة وهذا شيء طبيعي، فاتخاذ فرد واحد قراراً يكون أكثر ديناميكيةً وانطلاقاً وتحرراً من اتخاذ اثنين مجتمعين قراراً، والاثنان أكثر ديناميكيةً من العشرة، وحين يكون التنظيم مركزياً وله مؤسساته الضخمة فإن اتخاذ أي قرار بحاجة إلى حسابات معقدة، وهذه الحسابات تقيد حركة التنظيم وتقلل هوامش مرونته وسرعة حركته، فهو كالفيل في حركته بينما الفرد كالغزال في انطلاقته، وهذا البطء يؤدي إلى حالة من الجمود والعجز عن مواكبة التغيرات، ولأن التنظيم يميل إلى الاستقرار والمحافظة على تماسكه فإنه يخشى من المغامرة فلا يتقبل الأفكار الجديدة بحماس ويميل إلى الإبقاء على حالة النمطية والروتين، وقادته ينظرون بشكل لا شعوري إلى أي أفكار إبداعية بأنها تهديد لبقائهم.

كما أن سعي التنظيم لإظهار نفسه بأنه متماسك وموحد يدفعه لإلغاء مساحات التنوع، فهو لا يريد أن يسمع من بين صفوفه سوى رأي واحد، فيصهر كل قواعده الجماهيرية في هذا الرأي الواحد ويلغي فردياتهم ويحرم المجتمع من طاقاتهم وأفكارهم الإبداعية التي كانت ستصدر عنهم لو أنهم كانوا متحررين من التقييدات التنظيمية، وتجهض هذه الآراء الإبداعية بذرائع الانضباط ووحدة الصف.

وبذلك يتحول التنظيم من حيث لا يشعر إلى عبء على القضية التي قام من أجل نصرتها لأنه عطل طاقات قطاع كبير من المجتمع، وأذاب ملكاتهم الإبداعية في قوالبه الساكنة فلم يعد دورهم يزيد على كونه مجرد سمع وطاعة دون نقد وإبداع..

حين تصل التنظيمات إلى هذه الحالة من الجمود وثقل الحركة وتوقف الإبداع، وهي مرحلة يبدو الوصول إليها حتمياً في ضوء سنن التاريخ ما لم تجدد التنظيمات نفسها، في هذه المرحلة يتقدم ليمسك بزمام المبادرة شباب فتي من الذين لم تنطفئ إشراقة عقولهم في غمرة الأجواء الحزبية المشبعة بالتقليد والجمود، وحافظوا على اتقاد روح الإبداع، فيتحرروا من القيود المكبلة لانطلاقتهم، ويستشرفوا آفاقاً أوسع ويخرجوا من ضيق التنظيم إلى سعة الحياة فيروا المسائل من زوايا متعددة فيكون الإبداع ويأتون بأفكار جديدة غير نمطية تنقذ المجتمع من الضمور والموت وتعطيه دفعةً جديدة.

إن ما ينبغي أن تدركه التنظيمات والأحزاب هو أن الإنسان الذي نفخ الله فيه من روحه يتمرد على التقييد والتحديد والترسيم، والإبداع لا يتأتى إلا بإطلاق العنان للتفكير في كل اتجاه، وعدم حصر العقول في سقوف حزبية يحظر تجاوزها..

لذلك فإن من الخطأ أن يسعى أي تنظيم إلى قولبة المجتمع في إطاره، فيقضي على تنوع الآراء والرؤى، ويلغي فردية الأفراد ولا يسمح إلا بلون واحد ورأي واحد، بل إن من مصلحة التنظيم نفسه ألا يضخم ذاته ويبالغ في تسمينها على حساب المجتمع، لأن المجتمع هو الأصل وليس التنظيم، والتنظيم يمكن أن يحل نفسه بسهولة في أي وقت، ويبقى المجتمع، وقوة المجتمع يستفيد منها التنظيم ذاته، لأن المجتمع حين يكون قوياً مبدعاً ومرناً في حركته فإن هذه الأجواء الإيجابية ستنال التنظيم بخير وستنعكس عليه قوةً وحيوية.

إن التاريخ يحدثنا بأن التغيير يأتي غالباً من خارج القوالب الجاهزة، وما ذلك إلا لأن الأفراد غير المؤطرين هم أكثر قدرةً على استشراف آفاق أوسع، وإطلاق تفكيرهم، واستثارة إبداعهم دون مقيدات ومحددات. وما الثورات العربية منا ببعيد إذ أن من صنع التغيير في هذه البلدان لم تكن التنظيمات ذات العراقة التاريخية، ولا النخب المتفلسفة التي تكثر من حساباتها وقراءاتها، بل شباب بسطاء متحررين من العقد والتعقيدات.

إن كان لا بد من حاجة للتنظيم فيجب أن يظل في حدوده الدنيا حتى لا تستنزف جهود عناصره وعقولهم في بنائه على حساب الاعتناء بالأهداف الكبرى، وأن يكون مرناً فضفاضاً يضع مبادئ عامة، وليس تفاصيل جامدةً في كل صغيرة وكبيرة، ليبقي الباب مفتوحاً لتنوع الآراء ويفسح المجال للإبداع وألا يسعى لأن يكون بديلاًً للمجتمع، وأن يشجع المبادرات الشعبية التي تأتي من خارجه، ويثق بها وينظر إليها بأنها تقويه، وليس بأنها تنافسه وتهدد وجوده..

إن أمام الأحزاب أن تختار بين اثنتين إما أن تجدد نفسها لتستوعب طاقات المجتمع وتلبي طموح الشباب، أو أن تظل على جمودها فيتجاوزها المجتمع وتجري عليها سنة الاستبدال..

quot;وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكمquot;

والله أعلى وأعلم..

[email protected]