بعد أن وصلت الأحوال العربية إلى الحضيض بفعل الإخفاقات المتتالية والتي كان آخرها فضيحة تقسيم بلد عربي والتي أدت إلى تعميق مشاعر الإحباط في نفوس الشعوب العربية، وتعزيز الشعور باليأس أطلت علينا بارقة أمل أعادت مشاعر الثقة وبثت روحاً جديدةً في النفوس..

هذه البارقة جاءت على غير المتوقع من تونس التي ترزح منذ عقود طويلة تحت حكم الاستبداد الغاشم وعصابات المافيا التي تصادر كل صوت حر، وتكمم الأفواه حتى ظننا وساء ظننا أن حكم الطغاة الطويل استطاع أن يدجن الشعب ويروضه على حياة الصغار والعبودية، لكن أحداث الانتفاضة الشعبية العارمة التي تشهدها تونس هذه الأيام كشفت عن شعب حي نابض بالحياة لا يألف الضيم مهما طال الأمد واشتدت حلكة الظلام.

الشعب التونسي اليوم يحقق نبوءة شاعره الكبير أبي القاسم الشابي الذي نردد منذ طفولتنا أبياته الخالدة : إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر..ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر..

لله درك أيها الشاعر الكبير، ولله درك أيها الشعب التونسي الصابر المجاهد وأنت تثبت للشعوب العربية أن الثورة على حكم الاستبداد ليست مستحيلةً، وأن إرادة الشعوب أقوى من كل إجراءات الاضطهاد والقمع، وأن أنظمة الاستبداد أوهن من بيت العنكبوت..

النظام الاستبدادي في تونس نجح في تحطيم رقم قياسي في تكميم الأفواه وقمع الحريات خلال العقود الماضية..يكفي للتأشير أن نلاحظ أن صور أحداث الثورة القادمة من تونس هي عبر كاميرات الجوال مما يكشف عن غياب كامل لحرية الصحافة والإعلام، وأننا خلال عقدين كاملين لا نكاد نسمع صوت معارضة جادة من داخل تونس، مما يكشف أنها بلد الصوت الواحد والحاكم المتأله الذي يقول لقومه ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.

هذا القدر الهائل من الإجراءات الاستبدادية في تونس خلال عقود طويلة، وهذه الصناعة الممنهجة للرعب التي احترفها النظام ليستعبد الناس ويقتل فيهم أي بادرة للمعارضة تكشف مدى أهمية العمل الذي قام به هذا الشعب الثائر فأربك كل حسابات السياسيين وكسر حاجز الرعب الذي طالما سهر المستبدون على إحكام بنائه..

أهمية الانتفاضة التونسية تأتي من كونها مواجهةً بين شعب بمختلف مكوناته الفكرية والسياسية وبين نظام استبدادي غاشم، فهي أبعد ما تكون عن الطابع الحزبي أو الجهوي مما يعطيها مصداقيةً أكبر، ولعل في هذا درس بأن الشعوب العربية متقدمة على المعارضة المنظمة التي تتجمد مع الأسف في مربع التاريخ فلا تراقب التطورات والتغيرات المتسارعة في حركة الشعب، فبدل أن تكون الرائدة والقائدة لعملية التغيير فإنها تقوم بدور المعوق لها من خلال المبالغة في الحسابات والتحوطات والحذر حتى يتجاوزها الشعب بعفويته وتلقائيته.

انتفاضة الشعب التونسي ليست مجرد ثورة جياع كما يسميها البعض ولكنها تعبير عن حالة احتقان متراكمة منذ عشرات السنين، ولم تكن حادثة إحراق الشاب التونسي نفسه سوى القشة التي قصمت ظهر البعير وفجرت مكنونات من الغضب المخبوء، فالتشغيل وحل البطالة لم يعد هو سقف مطالبات الشعب التونسي، بل تعداه إلى الانتفاضة من أجل إسقاط الاستبداد ومواجهة الفساد السياسي الذي أهلك الحرث والنسل.

لقد أسقطت ثورة الشعب التونسي كل دعاوى الزيف التي كان يروجها نظام الاستبداد بأن بلاده هي واحة التنمية الاقتصادية، وكشفت عن وجه الاستبداد الحقيقي حيث البطالة والعجز والفساد والسلب والنهب، وإن النظام التونسي يترنح في هذه الأثناء تحت وقع الضربات الشعبية المتتالية وهو في حالة ذعر ورعب غير مسبوقة، وما لجوءه إلى العنف والإرهاب إلا دلالة خوف وإفلاس، وهذه الأدوات التي يستعملها من الإرهاب هي بهدف إرهاب الناس وبث الرعب في قلوبهم، وإذا أصر الشعب على الصمود فإن هذه الأدوات العنفية ستسقط ولن تغني عن النظام شيئاً..

بقيت هناك محاذير ينبغي الإشارة إليها وهي ألا يتورط الشباب التونسي الثائر في أعمال عنف وتخريب، وأن يحافظوا على الطابع السلمي للمواجهة، وألا يستفزهم قمع السلطة لهم بأن يلجأوا إلى التخريب حتى تظل الصورة القائمة بأنه شعب ثائر في مواجهة حكم دكتاتوري، والنظام المأزوم في تونس يسعى جاهداً لتصوير المواجهة بأنها مع مجموعة من الملثمين المخربين الذين يعتدون على المرافق العامة ليبرر قمعه وعنفه ضدهم، لذلك فإن على الشعب التونسي الحر أن يدرك أن سر قوته هو في الطابع السلمي للتظاهر، وأن هذه الصورة هي التي تعمق مأزق النظام الأخلاقي والسياسي وتهزم قوات الجيش والأمن من الداخل، وهي التي تكسبه التأييد الشعبي وتضفي أخلاقيةً على معركته.

إن إسقاط نظم الاستبداد لا يحتاج أكثر من كسر حاجز الخوف من نفوس الناس، وقد كسر في تونس والحمد لله، وإلى الإصرار على التظاهر وانتزاع الحرية حتى إقامة حكم ديمقراطي يعيد للشعب اعتباره، والنظام أوهن من أن يستطيع أن يواجه شعباً متجذراً إن أصر الشعب على المواصلة.

من المهم الالتفات إلى أنه لا يكفي إسقاط حكم الاستبداد، ولكن التحدي الأهم هو في إقامة الحكم الديمقراطي الرشيد بعد ذلك، فليس المهم أن يسقط فرعون ولكن المهم من الذي سيخلف فرعون، وحين يسقط الدكتاتور ويحل محله دكتاتور جديد لا نكون قد صنعنا شيئاً ذا أهمية، لذا فإنه ينبغي الحذر من أسلوب الالتفاف على هذه الغضبة الجماهيرية بأسلوب الانقلابات العسكرية، لأن من يأتي بانقلاب عسكري لا يتوقع منه أن ينشئ نظاماً ديمقراطياً، فما هو أهم من إسقاط الدكتاتور هو إقامة نظام ديمقراطي يؤمن بالتداول السلمي للسلطة ويطلق الحريات ويعيد الاعتبار للشعب، ولا أستبعد أن يعمل الغرب بسياسته المعهودة فيوحي إلى بعض ضباط الجيش بالانقلاب على بن علي لتنفيس احتقان الناس دون أن تحل المشكلة من جذورها..

إن حل المشكلة من جذورها يتطلب إنهاءً لحكم الفرد الواحد والحزب الواحد مهما كان لونه وانتماؤه..

ليحذر إخواننا في تونس وليعلموا أن الخلاص لن يكون عبر انقلاب عسكري، ولكنه عبر إقامة نظام ديمقراطي يعيد الإرادة المصادرة لأصحابها ويؤمن بالتداول السلمي للسلطة..


إن المأمول من الشعب التونسي لم يعد الخلاص السياسي في تونس وحسب، ولكن أن تنجح هذه الثورة الشعبية ببث روح جديدة في الشعوب العربية وتقديم نموذج مشرق لها يكسر حاجز الرعب من الأنظمة المهترئة وتنتفض مطالبةً بالحرية والكرامة والحياة..

ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر

رحم الله شاعرنا التونسي أبي القاسم الشابي، ورحم شهداء التغيير القادم..


والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

[email protected]