(نحن لا نرى الأشياء كما هي.. نراها كما نحن..) سقراط

لو أن خمسة أشخاص كانوا يسيرون في شارع واحد ( مهندس، مندوب مبيعات، موظف دعاية وإعلان، مصلح اجتماعي، سائق) فإن كل واحد منهم سينظر إلى الشارع نظرةً مختلفةً عن الآخرين..مهندس الطرقات سينظر إلى تصميم الشارع وطوله وعرضه، والمادة المستخدمة في رصفه، ونسبة ميله وغير ذلك من أمور اختصاصه، بينما موزع المبيعات سيلتفت يميناً وشمالاً ليبحث عن المحلات التي يمكن أن يتعاقد معها ويبيع إليها بضاعته، أما موظف الدعاية فسينظر إلى أنسب المواقع في الشارع لنصب لوحة إعلاناته، والمصلح الاجتماعي سيلفت نظره أثناء سيره مشهد الأطفال الباعة الذين حرموا من طفولتهم، أو مشهد المتسولين الذين تزدحم بهم الطريق، أما السائق فسيرى كل من حوله عبارة عن ركاب ينتظرون سيارةً توصلهم إلى هدفهم..
إن كل واحد منا يرى الأشياء من حوله وفق تصوراته الذهنية الخاصة به، فإذا ركز أحدنا على هدف محدد فإن العقل يجذب إليه كل الأفكار المتشابهة بينما يحذف الأفكار الأخرى..

كل شخص في هذه الحياة يرى الدنيا من منظوره الخاص الذي صنعه لنفسه فيكبر ما يتناسب مع أفكاره ويهمش أو يحذف ما لا يتناسب مع هذه الأفكار، وبهذا المعنى تسقط خرافة الموضوعية في حياة البشر، فحتى لو اعتقد الإنسان أنه موضوعي فلا بد أن تحتوي نظرته على جانب كبير من الذاتية..
في القرآن الكريم نجد قول الله عز وجل quot;يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا بهquot;، وتحريف الكلم عن مواضعه قبل أن يكون تحريفاً مادياً فهو تحريف نفسي، أي أن ينظر إلى التوجيهات الإلهية العليا وفق إسقاطاته النفسية وأهوائه الشخصية وليس وفق مراد هذه الآيات، وهذا النوع من التحريف ليس خاصاً بالذين من قبلنا بل إنه نالنا نحن أمة القرآن نصيب منه، فهنا يمارس من يتلو كتاب الله وعياً انتقائياً فيجذب إليه ما يتناسب مع رؤاه المسبقة، ويحذف ما لا يتناسب معها، وهنا نفهم تتمة الآية quot;ونسوا حظاً مما ذكروا بهquot;.

وما يحدث أثناء تلاوتنا لكتاب الله يحدث في قراءة أي كتاب بشكل عام فحين يطالع أحدنا كتاباً فإنه لا يفهم كل سطور الكتاب بنفس الدرجة، بل يفهمه بشكل انتقائي فما كان من أفكار هذا الكتاب متناسباً مع أفكار سابقة فإنه ينجذب إليها، أما الأفكار الجديدة التي لا تستند لأساس سابق في ذهنه فإنه يميل إلى إسقاطها بطريقة لا شعورية وربما لا يتنبه لوجودها أصلاً، كمثل الأعمى ينظر إلى الكلمات والجمل دون أن يدرك معانيها، وهنا نفهم السر العميق في قوله تعالى quot;فإنها لا تعمى الأبصار ولكنها تعمى القلوب التي في الصدورquot;..فهو يرى أشياء بعينيه ولكنه يسقطها من ذهنه بطريقة لا شعورية فهو كأنه لم يرها أصلاً لأنه لم يستفد من رؤيتها..
أي أننا نمارس خداعاً للذات، وبدل أن نبحث عن الجديد ونحاول الاستفادة منه فإننا نميل إلى ترسيخ الأفكار القديمة في عقولنا، وهذا هو سبب اختلاف انطباعات القراء عن نفس الكتاب، فنحن نعبر عن أنفسنا أكثر من تعبيرنا عن القيمة الموضوعية للكتاب نفسه، وفي تقييمنا للأشخاص فإننا نصف أنفسنا أكثر من وصفنا للآخرين، فمن أساء الظن بالآخرين دل ذلك على سوء طبعه، ومن أكثر من إحسان الظن بالآخرين دل ذلك على طيبته هو قبل طيبة الآخرين الذين يمدحهم..

قانون الجذب له مفعول عجيب في حياة البشر فهو الذي يرسم حياتهم سواءً كانت سلبيةً أم إيجابيةً، ومن هنا وجب مراقبة الإنسان لأفكاره وخواطره لأنها تنمو وتتعاظم وتجذب إليها مثيلاتها من الأفكار والخواطر حتى تغدو بناءً راسخاً يصعب تغييره، وكما قيل فإن الحسنة تجذب الحسنة، والسيئة تجذب السيئة، وكما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: quot;طارد الخاطرة قبل أن تتحول إلى فكرة وادفع الفكرة قبل أن تتحول إلى إرادة وادفع الإرادة قبل أن تتحول إلى عملquot;.. وحياة الإنسان ليست سوى نسيج أفكاره، فالعظماء الذين غيروا وجه التاريخ إنما تحولوا إلى عظماء حين ملئوا قلوبهم بالأفكار العظيمة وبالتأسي بالعظماء من قبلهم، أي أنهم وضعوا فكرةً إيجابيةً في عقولهم، وهذه الفكرة قامت بجذب الأفكار العظيمة التي تشبهها حتى تحولوا إلى طاقة فاعلة من الإيجابية والعظمة..

ونفس الشيء في الجانب الآخر فإن ما يصنع المجرم هو امتلاء عقله بالتصورات والخيالات الذهنية الفاسدة وتنتج هذه الخيالات والأفكار سلوكه الإجرامي لأنه لا يرى في الدنيا من حوله سوى الجريمة والفساد فيندفع لمحاكاة أسلوب المجرمين ظاناً أنه على صراط مستقيم quot;ويحسبون أنهم مهتدونquot;، ولعل المثال فاقع الدلالة من حولنا هو مثال القذافي الذي لم ير في كل التاريخ البشري من أمثلة تستحق التأسي سوى أمثلة ستالين، والصين الشيوعية وحرب أمريكا في الفلوجة وحرب الصهاينة على غزة، فالقذافي طالع التاريخ، كما طالعه غيره، لكنه لم يستوقفه خلال مطالعاته سوى أمثلة السوء التي ذكرها في خطابه الشهير (زنقة زنقة)، بينما رأى غيره ممن طالع التاريخ أمثلة العظماء والمصلحين، وبذلك تحول القذافي إلى كتلة من الإجرام بفعل قانون الجذب النفسي الذي جذب إليه كل من هم على شاكلته وأسقط من وعيه الأمثلة الناصعة المضيئة من حوله فضل سعيه في الحياة الدنيا..
إن من يعلم أن أفكاره هي التي تصوغ حياته وتحدد مصيره جدير به أن يراقب هذه الأفكار وأن يحرص على أن يملأ قلبه بمعاني الإيمان والإيجابية والخير، ويمارس عبادة الإعراض عن الظواهر السلبية حتى لا تنفذ سمومها إلى قلبه فتورده موارد الهلاك..

والله أعلى وأعلم..
[email protected]