هذه الكلمة قالها جبريل عليه السلام للنبي محمد صلى الله عليه وسلم حين رجع المسلمون إلى المدينة في أعقاب غزوة الأحزاب ووضعوا أسلحتهم، فجاء التوجيه الإلهي بالمسير إلى بني قريظة للقضاء عليهم جزاءً وفاقاً لهم على نقضهم العهد في وقت حرج كاد أن يؤدي إلى استئصال وجود المسلمين في المدينة، في درس تعليمي بألا يتعجلوا الركون إلى الراحة، ولا يعلنوا انتهاء المعركة قبل تحقيق كامل الأهداف والقضاء على جيوب الفتنة..

سأستعمل هذه العبارة برمزيتها الدالة على عدم التعجل بإعلان انتهاء المعركة قبل تحقيق الأهداف كاملة، وولادة مرحلة جديدة فأقول لأهلنا في مصر إن الملائكة لم تضع أسلحتها بعد..

يحق لكم أن تفرحوا بما أنجزتموه حتى الآن، فهو لا ريب إنجاز عظيم رفعتم به رؤوس الأمة عالياً، ويحق لكم أن تنظموا المهرجانات الاحتفالية وتتبادلوا التهاني وتوزعوا الحلوى بعد النجاح الباهر في إسقاط حكم الطاغية، لكن المحظور هو الظن بأن ما تم تحقيقه هو كل شيء، وأن الثورة قد وضعت أوزارها، وأن المخاطر التي كانت تتهددكم قد زالت إلى غير رجعة..

إن معاذ بن جبل رضي الله عنه قد خط لنا طريقاً حين كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير، أما هو فكان يسأله عن الشر مخافة الوقوع فيه، وعلى هذا الطريق فإننا سنفترض الشر، ليس لأننا أصحاب نظرة تشاؤمية، بل حتى نأخذ حذرنا منه مخافة الوقوع فيه، والشر هنا هو احتمال التفاف العسكر في مصر على الثورة، والسياسة لا تراهن على النوايا، بل على الوقائع، ولم يكن العسكر في مصر ليقفوا الموقف الإيجابي نسبياً الذي وقفوه لولا ثبات الشعب المصري، وفشل كل محاولات قمعه بالقوة، فآثر الجيش الإبقاء على موقفه المحايد وعدم اللجوء إلى القوة في مواجهة الشعب، ليس بالضرورة لطيبة قلوب قادته، ولكن لأن حساباتهم السياسية أوصلتهم إلى قناعة مفادها بأنهم إن استعملوا القوة ضد الشعب فلن يستطيعوا إخماد الثورة، وسيكونون هم الخاسرون بتشكل صورة سلبية عنهم بأنهم في الصف المعادي للشعب وتطلعاته..

لكن وبرغم هذا الموقف الإيجابي للجيش المصري، إلا أن إيجابيته لا تزال مترددةً ومتباطئةً، ولا يزال أداؤه بعد استلام الحكم مثار قلق وحيرة، إذ أنه لم يتخذ حتى اللحظة ما يمكن تسميته بخطوات نوعية تبعث على الطمأنينة في نفوس الناس، وتعزز ثقتهم به.

أعلم أن الأمور لا تزال في بدايتها وهناك من يقول إننا ينبغي أن نمنح الجيش الفرصة، وهذا صحيح..لكن هناك خطوات لا تحتاج للانتظار ويمكن القيام بها على وجه السرعة لبعث الارتياح في نفوس الناس، من قبيل إطلاق سراح كافة المختطفين السياسيين في حقبة الرئيس المخلوع جملةً واحدةً لا تدرجاً، وإقالة الحكومة التي عينها الرئيس المخلوع وتعيين حكومة انتقالية من الشخصيات المقبولة جماهيرياً، وإعلان موعد قريب لرفع حالة الطوارئ..

إن مما يثير القلق أيضاً بقاء بعض رموز النظام السابق في مواقعهم حتى اللحظة، مما جعل فهمي هويدي يصف الحال بأن رأس النظام هو الذي زال بينما جسده لا يزال قائماً، فهناك أنباء عن وجود عمر سليمان في قصر الرئاسة حتى اللحظة، وأنباء عن اتصالات تجري بين الرئيس المخلوع في مقر إقامته في شرم الشيخ وبين مسئولين في القاهرة، كذلك مما يبعث في النفس الريبة والقلق هي الدعوات المتواصلة من قبل الجيش للكف عن التظاهرات، وكان ينبغي على الجيش كبادرة حسن نية أن يعلن سماحه بالتظاهرات ما دامت سلميةً ومنظمةً ولا تشوش على سير الحياة العامة..

حتى تلك الخطوات التي قام بها الجيش لإرضاء الجماهير من اعتقال وزراء وتجميد أرصدة، فإنها لا تبعث على الرضا الكامل، وإن كانت خطوات ضروريةً بلا شك، إلا أنها تتصف بأنها خطوات هدمية، لا خطوات بنائية، والأولوية ينبغي أن تكون للبناء قبل الهدم، فواجب الساعة الملح هو التأسيس لنظام جديد بضمانات لئلا تنتكس الحالة إلى الوراء وتأتي بفاسدين ومستبدين جدد..

من الإشارات المقلقة أيضاً ما كشفت عنه الإذاعة الصهيونية بتاريخ 18-2-2011 عن رسائل من الإدارة الأمريكية إلى نتنياهو تطمئنه فيها على مستقبل الأوضاع في المرحلة المقبلة استناداً إلى العلاقات الحمائمية بين البنتاغون وقادة الجيش المصري الذي يدير مصر حالياً..

وعلى ذكر أمريكا والكيان الصهيوني فإننا يجب ألا نغفل حجم المؤامرات الخارجية التي تحيق بالثورة المصرية وتعمل على إجهاضها، لما تمثله مصر من مركز ثقل عالمي، فلا يتوقع أن تسلم قوى الاستكبار والاستعمار بسهولة بحقيقة تحرر الإرادة الوطنية للشعب المصري، وهذا يفرض تحديات إضافية على الشعب المصري، وينبههم بأن هناك متربصين كثراً بثورتهم، فوجب الحذر والانتباه.

لا أهدف من هذا الحديث إلى بث روح الإحباط، ولا إلى تعبئة الشارع المصري تجاه جيشه الوطني، بل على العكس من ذلك فأنا أشعر بالفخر والإعجاب تجاه مستوى النضج العالي الذي أظهره الشعب المصري في ثورته حين لم يتورط في أي شكل من أشكال العنف والتخريب، وحافظ على لهجة تقاربية تآلفية مع الجيش، لم يؤثر فيها ما بدا من الجيش في بعض الأوقات من سلوك سلبي، ومع هذا فلم يستفز هذا السلوك السلبي الشعب المصري، ولم ينجح في حرف مسار معركته عن وجهتها الرئيسية، ونجح بهذا التصرف الحضاري السلمي في كسب الجيش إلى صفه، على الأقل من باب التخجيل، مما يذكر بالآية الكريمة quot;ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميمquot;.

لكن ما أهدف إليه هو التنبيه بأن الرهان الأساسي لتحقيق كامل أهداف الثورة وإنشاء نظام ديمقراطي حقيقي تعددي، وضمان عدم الالتفاف عليها هو على الشعب وليس على الجيش، وكلما أبدى الشعب مزيداً من اليقظة والوعي، كلما كان ذلك ضماناً بتوفية الجيش لوعوده وتحقيق مطالب الشعب، والجيش حين يفعل ذلك فهو لا يمن على الشعب، لأن الشعب هو الذي صنع التغيير وهو الذي يحق له أن يأمر وينهى، ويعين من يشاء، ويقيل من يشاء، وليس على الجيش سوى التنفيذ الكامل لمطالب الجماهير دون تلكؤ أو تجزئة أو مراهنة على الوقت.

وقد أحسن الشعب المصري صنعاً حين نظم مسيرات مليونية يوم الجمعة الماضي في رسالة قوية بأنه لا يزال حاضراً في الميدان، ولا تزال لديه القدرة على الاحتشاد في الشارع إن سولت لأحد نفسه أن يسرق ثورته.

وما نرجوه من الإخوة المصريين هو مزيد من هذه الفعاليات الجماهيرية، وإبقاء حالة الاستنفار والاحتشاد من أجل تشكيل قوة ضاغطة على الجيش لرد الأمانة إلى أهلها، وتحقيق تطلعات الشعب كاملة..

إن الشعب المصري لا يزال في مرحلة الثورة ولم يصل بعد إلى مرحلة جني ثمرتها، وحين ينشئ نظاماً ديمقراطياً حقيقياً، ويقضي على كل بقايا النظام السابق يحق له حينها أن يعلن انتهاء المعركة ويقيم احتفالات النصر، لا ليتوقف عندها ويركن إلى الراحة بعد ذلك، ولكن لينطلق من جديد في معركة أهم وهي معركة البناء في صيرورة حركية لا تتوقف، ولا تكل ولا تمل..

يقول الله تعالى:quot;وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةًquot;

والله أعلى وأعلم..

[email protected]