يعاني بعض العرب بحكم طول أمد الهزيمة الحضارية التي عايشوها مما يمكن تسميته بعقدة الأجنبي..
هذه العقدة تتجلى بالانبهار اللاشعوري بكل ما له صلة بالغرب، وذلك للاعتقاد بتفوقه، في أسلوب طفولي لتقليد الكبار في كل شيء حتى في الأمور التي لا علاقة لكونهم كباراً بها..
هذا التقليد الأعمى يكشف عن انعدام الثقة بالنفس.
نرى هذه النفسية تتجلى في الاستعمال غير المبرر لكلمات أجنبية وإقحامها في سياق الحديث دون وجود حاجة إليها في توضيح المعني ليظهر المتحدث نفسه بأنه متحضر وعصري ومتحرر من ثقافة التخلف العربية حسب ظنه.
كما نراها في شيوع إطلاق أسماء أجنبية على الفنادق والصالونات والشوارع وغيرها، مع أن اللغة العربية فيها متسع لهذه التسميات.
نرى هذه النفسية الانهزامية في محاكاة الأجانب حتى في طريقة اللبس، والأكل والاحتفالات، وغيرها، فتجد أحدهم يأكل بشماله ويتناول طعامه بالشوكة والسكين ليظهر نفسه بمظهر حضاري وكأنه بهذه الطريقة -ما شاء الله عليه- سيتدفق عقله بحكمة الغرب وحضارته.
هذا التقليد يمكن فهمه مقاربةً بنظرية بافلوف في الارتباط الشرطي اللاواعي، فكما أن الكلب في هذه النظرية بمجرد سماعه دق الجرس يسيل لعابه لأن هذا الصوت ارتبط في ذهنه بإحضار الطعام فيصير دق الجرس في حد ذاته مثيراً للعاب حتى دون إحضار الطعام، كذلك صاحبنا المنبهر يصير مجرد محاكاة الأجنبي في لباسه وطريقه طعامه وشرابه وكلامه مظهراً حضارياً حتى وإن كان فارغ المحتوى غير جاد في البحث العلمي والقراءة غير ملتزم بمواعيده، لا يفكر ولا يبدع، وهي الأمور التي تصنع الحضارة بحق.
المقلد يبحث عن التقدم والحضارة، وهو يظن أن الغربي يمتلك هذه الحضارة، وحتى الآن لا توجد مشكلة، ولكن المشكلة هي في تحول هذا التقليد إلى تقليد أعمى لا يفرق بين العوامل الحقيقية لتقدم الأجانب فيستفيد منها ويتمثلها في حياته، وبين الأمور التي تخضع لاختلاف البيئة الثقافية.
لا أقول إنني لست ضد أن نستفيد من الغرب في جوانبه الإيجابية التي أدت إلى صناعة حضارته، فالقضية ليست مجرد جواز بل هي فريضة، وهذه القيم الحضارية وإن كان للغرب فضل السبق فهي قيم إنسانية يجب على كل من يبحث عن التقدم الإنساني أن يستوعبها وينطلق منها، لكنني أنهى عن مرض فقدان الثقة بالنفس، لأن من يفقد ثقته بنفسه ويعيش بنفسية المنهزم ويعاني من عقدة النقص غير مؤهل للتفكير الحر والإبداع والمساهمة النوعية في خدمة البشرية.
هناك علاقة بين العلم وبين الثقة بالنفس فكلما كان الإنسان أكثر رسوخاً في العلم كلما كان أكثر قدرةً على التمييز بين المظاهر والجواهر، وكلما صار أكثر دقةً في معرفة ماذا يأخذ وماذا يترك، وكان أبعد عن التعميم والقوالب الجاهزة، فلا يقيس الأمور بمنطق الثنائيات، بل يمتلك رؤية نقديةً في جميع المراحل فيستفيد من السمين ويترك الغث.
هذه الهزيمة النفسية التي نتحدث عنها لا تقتصر على بعض السلوكيات من قبل بعض الشباب المراهق، بل تنال حياتنا الثقافية والفكرية كذلك، فإذا أراد أحدهم أن يؤكد لك حقيقةً قال لك: (اكتشف باحث غربي-أو ياباني أو ألماني أو أمريكي) فإذا سمع المتلقي هذه اللازمة ألقى سمعه بعناية، ومما يزيد الأمر أسفاً أن تظهر عقدة النقص هذه حتى عند من يريدون أن يدعوا إلى دين الإسلام، فهو في سبيل إثبات عظمة هذا الدين يستشهد لك بأقوال شاعر غربي أو فيلسوف أو كاتب وربما أقل من ذلك، فقط يكفي أن يكون اسمه روبرت أو فيليب أو فريدريك، وإذا أراد أن يثبت إعجاز القرآن قال: لقد قال باحثون غربيون كذا وكذا وقد سبقهم القرآن بألف وأربعمائة عام، وهو لا يدري أنه بهذه الطريقة يثبت عجز المسلمين أكثر مما يثبت إعجاز الإسلام. فهذا يعني أننا بتنا عاجزين حتى عن رؤية عظمة ديننا إلا بمنظور غربي، وأننا نتلمس منهم أن يشهدوا لنا بصواب موقفنا، وأنى لمن يعيش بهذه النفسية المنهزمة المترددة أن يقود البشرية وأن يقدم لها مشروعاً حضارياً.
ويا ليت هذا الشعور بالنقص قد اقتصر على علاقتنا بالغرب، لكن المصاب الأكبر أنه امتد حتى إلى نظرتنا إلى الإسرائيليين الذين يحتلون أرضنا ويمارسون ضدنا أبشع صور التطهير العنصري، وهي علاقة غريبة بين الضحية والجزار، تمزج بين الكراهية الشديدة للاحتلال وفي نفس الوقت الاعتقاد الخفي بتفوقه وأفضليته. فتجد من بيننا من إذا أخبرته بخبر سألك عن مصدره فإن قلت له صحيفة هآرتس أو معاريف أو يديعوت أنغض إليك رأسه وسلم بصحته، وكأن هذه الصحف هي منتهى المهنية والمصداقية مع أنها وسائل خطيرة يستعملها الاحتلال لبث سمومه ودعاياته، صحيح أنها في بعض جوانبها مهنية إلا أنها في جوانب أخرى أمنية ينبغي التعامل معها بحذر شديد.
والغريب أن الأخبار التي يستقيها البعض من المصادر الإسرائيلية لإثبات صحتها تكون أحياناً أخباراً محليةً بحتة أي أننا نحن أقرب إليها من هذه المصادر الإسرائيلية، فلا حاجة للذهاب بعيداً من أجل إثباتها، وقد بلغ بأحدهم ذات مرة أن يستدل على عدد الشهداء الفلسطينيين في إحدى الاجتياحات برواية إذاعة الجيش الإسرائيلي مع أن المستشفى بجواره ويستطيع أن يحصل منها على المعلومة، ولكن ماذا نفعل والبعض يعاني من عقدة الخواجة، فكل ما يقوله الأجنبي-حتى لو كان احتلالاً-فهو مقدس.
وأحياناً يكون مجرد تحليل لكاتب إسرائيلي هو بشر مثلنا يأكل مما نأكل منه ويشرب مما نشرب، مبني على تقديره الشخصي، وكثيراً ما يخطئ هذا التقدير، ومع ذلك يسارع البعض إلى تلقفه والترويج له على أنه الرواية الرسمية لدولة إسرائيل وأنه من لدن عليم خبير، أستغفر الله العظيم.
أكتب هذه الخواطر التي تدفقت إلى عقلي دون سابق إنذار ونحن نعايش لحظات تاريخية يبدأ فيها مسار تحول الشعوب العربية من الهبوط إلى الصعود، ولا نريد أن نكون في هذه المرحلة عوامل تثبيط وإحباط، فنرسم صورةً قاتمةً لحالة عربية قد بدأت طريق الازدهار، ولكنني أنبه إلى أن هذه اللحظة الراهنة هي اللحظة المناسبة للتحرر من عقد النقص والعجز واستعادة الشعور بالثقة، وأن التحرر من عقدة الأجنبي هو شرط لا يمكن تجاهله من أجل استعادة الأمة لدورها الحضاري الرائد.
والله هو الهادي إلى سواء السبيل..
التعليقات