في يوم الجمعة المباركة الثامن من أبريل 2011 وفي نفس الوقت الذي كانت الأراضي المحتلة تشهد فيه تصعيداً إسرائيلياً أسفر عن استشهاد أكثر من عشرة فلسطينيين كانت قوات الأمن التابعة لنظام عربي يرفع شعار الممانعة تطلق النار على أبناء شعبها الذين خرجوا منادين بالحرية لتحصد زهاء الأربعين شهيداً، أي حوالي أربعة أضعاف من قتلهم الاحتلال في نفس اليوم.
هذا النظام العربي الممانع وهو يقتل أبناء شعبه فإنه يبرر ذلك بأنه يتصدى لمؤامرة أجنبية تستهدف النيل من صموده وممانعته، وإذا فهمنا مصطلح الممانعة بأنه يعني إفشال المشروع الإسرائيلي القائم على قتل الفلسطينيين واغتصاب حقوقهم وممارسة أبشع ألوان الظلم عليهم، فهذا يعني أن هذا النظام يجعل من رفضه لسياسة القتل والظلم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين مسوغاً لكي يقوم هو بقتل أبناء شعبه، وممارسة الاضطهاد بحقهم.
ما نريد أن نذكر به هذا النظام هو أن المبادئ لا تتجزأ ومن قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً، والإنسان مقدس أياً كان لونه وجنسيته، وميزان الحق لا يفرق بين قطرة دم تراق بأيد عربية أو إسرائيلية، والاستبداد لا يزيد عن كونه وجهاً آخر للاحتلال، ومن يسعى للتحرر من الاحتلال فإنه لا يفعل ذلك ليستبدل به قيداً آخر وسجانين آخرين، فالمعركة ضد الاحتلال وضد الاستبداد واحدة، وحرية الإنسان هي الأصل لا تقبل المقايضة عليها تحت أي ذريعة أو حجة.
لقد جاء الإسلام ليحطم الأصنام كلها ويحرر البشرية من العبودية لغير الله، ومع ذلك فلا تزال الأصنام مزدهرةً في عالمنا العربي بعد أن اتخذت أشكالاً جديدةً، فإن كانت البشرية في عهودها الأولى قد عرفت نوعاً من الصنمية الساذجة المباشرة بتقديم القرابين الإنسانية على مذابح الأصنام الحجرية، فإن هناك أشكالاً أكثر خفاءً من الصنمية لا تزال موجودةً في عصرنا هذا، فلا نزال نقدم القرابين البشرية على مذابح أصنام الشعارات والأيديولوجيات الكاذبة، أو فداءً للقائد البطل الملهم والزعيم الأوحد، ولا يزال يقتل الإنسان وتنتهك كرامته بدعوى مصلحة الوطن أو الحزب أو القومية أو القائد الملهم، وكلها لا تزيد عن كونها أصناماً تعبد من دون الله.
إن القدسية الحقيقية هي للإنسان، فهو سيد الكون وهو بنيان الله في أرضه، وحرية الإنسان هي الأساس، وكل دعوى تقدم أي شعار على حرية الإنسان وكرامته فهي دعوى ساقطة، وهي إحياء للصنمية والشرك الذي جاء دين التوحيد لينسفه.
من روائع ما يلفت إليه القرآن الكريم أنه يقدم كرامة الإنسان على الأوطان، بل إنه يوجب ترك الأوطان إن تعارض البقاء فيها مع كرامة الإنسان، ولا يبرر له القبول بحالة الاستضعاف من أجل البقاء في وطنه quot;ألم تكن أرضي واسعةً فتهاجروا فيهاquot;، فقدسية الوطن لا تكون إلا حين يعيش أبناؤه فيه أحراراً، أو يكونوا قادرين على الأقل على التعبير عن رفضهم للظلم، وربما يكون في هذا النهج القرآني نسف لثقافة سائدة بيننا تبرر التضحية بكرامة الإنسان في سبيل الأرض والطين.
إن التذرع بالمؤامرة والتحديات الخارجية لتبرير الاستبداد الداخلي ولقتل الأصوات المعارضة هو عمل شائن تمارسه الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي، فأي فائدة ترتجى من هذه الأنظمة بعد أن تقتل الإنسان في بلادها، وإذا قتل الإنسان-ليس بالضرورة قتلاً مادياً، ولكن قتلاً روحياً بمصادرة حقه في التعبير عن نفسه- فأي قيمة تبقى للشعارات الوطنية والقومية التي يرددها النظام.
أستحضر أحد الأحاديث النبوية التي تخبرنا عن فتن آخر الزمان حين تحدث مقتلة عظيمة في المسلمين فيعلق النبي صلى الله عليه وسلم عليها ويقول quot;فبأي غنيمة يفرح أو أي ميراث يقاسمquot;، أي ما قيمة ما سيغنمه المسلمون من أموال طائلة بعد أن قتل منهم أكثرهم، وعلى ذلك نقيس ونقول quot;فبأي ممانعة نفرح، أو أي ميراث نقاسم وقد خسرنا أغلى ما عندنا وهو الإنسان، وما قيمة أن نحرر الجولان أو حتى فلسطين كلها وقد قتلنا الإنسان، وماذا نفعل بالتراب والطين من دون الإنسان؟
السبيل الأمثل للتصدي للمؤامرات الخارجية وإفشالها لا يكون بتكميم الأفواه ومصادرة الحريات وقتل كرامة الإنسان، بل بتمتين الجبهة الداخلية وإطلاق الحريات وإقامة أنظمة ديمقراطية تعبر عن تطلعات شعوبها، لأن الحكومات حين تكون منتخبةً ديمقراطياً فإنها تكون أكثر انسجاماً مع شعوبها، وتكون صاحبة شرعية راسخة لا تهزها كل المؤامرات الخارجية، فالشرعية المستمدة من الداخل لا يملك أي طرف خارجي أن ينتزعها، ولكن حين تكون شرعية النظام مستمدةً من القوة والإكراه وقمع الناس فإنها تكون في مهب الريح، ولن تصمد أمام عواصف التغيير حين تهب عليها لأن مثلها كمثل شجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
لا أتحدث في هذه السطور بمنطق السياسي، بل بمنطق الحق والمبادئ الذي لا يقيم اعتباراً لأي حسابات سياسية ومصالحية حين يتعلق الأمر بانتهاك قضايا الحق والعدل في أي مكان، فمنطق الحق لا يعترف بالحدود الجغرافية والفوارق الوطنية، وقضية أي مظلوم في أي مكان من العالم ينبغي أن تكون قضية الجميع، وحيثما كان الحق والعدل نكون..
إن الدرس المستفاد من العواصف التي تجتاح بعض البلاد العربية هو أن ما بني على باطل فهو باطل وأن الله لا يصلح عمل المفسدين، وأن كل محاولات التزويق والترقيع لا تنجح في قلب الحقائق، وإذا لم يكن البناء قائماً على أسس متينة وقوية فإنه على جرف هار سينهار به يوماً ما.
إن الأساس القوي الذي يحمي الدول والمجتمعات هو العدل الداخلي، واحترام كرامة الإنسان وحريته، وإن أي تشدق بالصمود والممانعة ما لم يسانده رصيد داخلي من احترام كرامة الإنسان فهو ادعاء زائف، لأن المبادئ لا تتجزأ ومن ينتهك حقوق الإنسان من بني جلدته، لا يراهن عليه بأن ينصر قضايا الحق والعدالة خارج بلده، وإن فعل ذلك فإنه سيفعله انطلاقاً من حسابات مصلحية ضيقة وليس كموقف مبدئي أخلاقي، وسيكون مستعداً في أي لحظة للتخلي عن مناصرة تلك القضايا من غير تردد إذا تبين له أن مصلحته في التخلي عنها.
إننا نعيش أياماً مباركةً تهاوت فيها كثير من دعاوى الباطل، وتكشفت الحقائق، وافتضح الزيف، فلم يبق مجال بعد اليوم للدعاوى الكاذبة، والشعارات البراقة الخادعة، ولن يصح إلا الصحيح ، ولا يحق إلا الحق، وإن الممانعة الحقيقية التي تخيف إسرائيل والداعمين لها هي الممانعة النابعة من الشعوب وتطلعاتها لأن الشعوب أكثر استعصاءً على التطويع وأكثر صدقاً وجديةً في مواقفها المعلنة، ومن يريد أن يواجه إسرائيل ويتغلب عليها فإن أفضل ما يمكن أن يفعله في سبيل ذلك هو الإصلاح الداخلي وإعادة الاعتبار لكرامة شعبه المهدورة..
ختاماً وتتمةً للفائدة فإنني أحيلكم لمطالعة ما كتبه الباحث الفلسطيني صالح النعامي حول خرافة ممانعة الأنظمة الاستبدادية في مقالته القيمة التي حملت عنوان quot;الاستبداد في مواجهة الاستبدادquot;:

http://www.naamy.net/view.php?id=1019
quot;والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمونquot;..

[email protected]