لم نقصد بالهجرة التي تحدثنا في الجزء الأول بأن القرآن يحث عليها ذلك النوع من الهجرة الذي يهدف صاحبها منها إلى تحصيل المتع الدنيوية، والبحث عن رغد العيش، كما

الجزء الأول

لا تقصد هذه الدعوة للهجرة إلى ترسيخ سلبية الشعوب، ودفعها لترك البلاد للظالمين والخروج منها، ولكنها هجرة يستوجبها عجز الإنسان عن الاحتفاظ بكرامته على أرضه، وعجزه عن مقاومة الظلم والتصدي له، فإن كان بقاء الإنسان على أرضه يسمح له بمقارعة الظلم مع وجود صعوبة في ذلك، فإن بقاءه في وطنه أولى من الهجرة لأنه حينها سيكون قادراً على البقاء في وطنه بكرامته التي تصنعها مقاومته للظلم، والدليل على ذلك أن أكثر الأنبياء كانوا يظلون في قراهم يصبرون على الأذى وهم يبلغون رسالات ربهم حتى تخرجهم أقوامهم قسراً..
المهم ألا يكون ثمن البقاء هو الخضوع والاستكانة..
تأتي في القرآن فكرة انقلابية أخرى تهدف إلى تحرير الإنسان، وتحرير الإنسان في الإسلام هو معنى عميق يبدأ من تحريره النفسي الداخلي، وليس مجرد تحرير ظاهري يخفي ذلةً واستضعافاً في الباطن، هذه الفكرة تقول إن من يقبل بأن يصبح مطيةً للسادة والكبراء هو ظالم لنفسه، وشريك معهم في العذاب يوم القيامة، فالقرآن لا يقر بمصطلح (العبد المأمور) ولكنه يجعل لكل إنسان إرادةً حرةً تمكنه من رفض استعباد الآخرين له، فإذا تخلى الإنسان عن هذه الإرادة وسمح للآخرين بأن يستعبدوه فهو بذلك قد ظلم نفسه، وصار جديراً بأن يناله غضب الله عز وجل..
في القرآن يتكرر كثيراً مشهد المواجهة في نار جهنم بين quot;الذين اتَّبعواquot; وquot;الذين اتُّبِعواquot;، أو بين quot;الذين استكبرواquot; وquot;الذين استضعفواquot;..في ذلك الموقف العصيب يتساءل الجنود الذين كانوا مستضعفين في الدنيا:إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النارquot;، فيرد المستكبرون على المستضعفين: quot;قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمينquot;..من هذا الرد الأخير تتبين لنا حقيقة في غاية الأهمية، وهي أن المستكبرين مهما أوتوا من وسائل الترهيب والترغيب فإنهم لا يستطيعون النفاذ إلى القناعات، فسلطانهم ظاهري، وهم لا يستطيعون أن يحولوا بين أتباعهم وبين الهداية القلبية إذا توفرت النية الصادقة من قبل هؤلاء الأتباع للإيمان، وبذلك فإن كلاً من المستكبرين والمستضعفين هم سواء في العذاب يوم القيامة quot;قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمونquot;.. أما المستكبرون فإن سبب عذابهم هو ظلمهم للناس، وأما المستضعفون فقد استحقوا العذاب بظلمهم لأنفسهم التي خلقها الله حرةً كريمةً فأبوا إلا أن يهينوها ويخضعوها لسادتهم وكبرائهم..
إن هذه الفكرة انقلابية لأن البشر قد اعتادوا على التعاطف مع الجنود البسطاء لأنهم لا يملكون إلا أن ينفذوا أوامر أسيادهم، لكن القرآن يرفض هذا التبرير، ويحرض هؤلاء الضعفاء على الثورة على أوامر الأقوياء حين تكون أوامرهم ظالمةً، فالإسلام لا يعرف أسلوب الطاعة المطلقة، ويجعلها طاعةً مقيدةً محدودة quot;لا طاعة لمخلوق في معصية الخالقquot;..وبذلك فإن أسلوب الجندية الذي اعتاده البشر هو أسلوب غير إسلامي تماماً، فالجندية بشكلها الحالي القائم على مسخ شخصية الجندي وتحويله إلى مجرد أداة تنفذ الأوامر وحسب لا وجود لها في الإسلام، بل إن الجندي في الإسلام هو إنسان مكرم له شخصيته وقراره، ولا ينفذ أمراً لا تقبله فطرته وعقله ودينه..
وبذلك فإن المجتمع الذي يدعو إليه الإسلام هو مجتمع أكثر إنسانيةً لأن العلاقات بين القائد والجندي فيه تقوم على مبدأ الطاعة المبصرة، وليس الطاعة العمياء، فيظل الجندي إنساناً..
إن كون هذه الأفكار انقلابيةً تخالف المألوف البشري فيه إشارة إلى أن القرآن ليس بشرياً..
في قصة آدم وأكله من الشجرة المحرمة يظهر جانب آخر من جوانب تحرير الإنسان.فطرح هذه القصة في القرآن جاء مميزاً عن طرحها في كتب الأديان الأخرى، هذا الطرح يتناسب مع الهدف التحريري للقرآن، فبينما نجد الإنسان في كتب أخرى مثقلاً بالخطيئة الموروثة فيولد وقد حمل وزر أبيه آدم، إلا أن القرآن يبطل هذه النظرة تماماً، فآدم عليه السلام في القرآن الكريم قد تاب الله عليه quot;فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليهquot; وبذلك طهره الله من آثار الخطيئة التي ارتكبها، ثم إن أولاد آدم لا علاقة لهم بوزر أبيهم، إذ تقوم فلسفة القرآن على أنه quot;وألا تزر وازرة وزر أخرىquot; فمن يعمل الخطأ يتحمل وحده النتيجة ولا يشاركه في وزره أحد سواءً كان ابنه أو أخاه أو صاحبه..
إن هذه النظرة تطلق الإنسان من قيود الشعور بالذنب، وتبث فيه روح الأمل والثقة بالله تعالى..
من المبادئ العظيمة التي جاء بها الإسلام من أجل تحرير الإنسان مبدأ التوبة. والتوبة تعني إبقاء الباب مفتوحاً للرجوع والإنابة مهما أسرف الإنسان على نفسه، ومهما أوغل في طريق الخطأ، حتى وإن بلغت ذنوبه عنان السماء، والتوبة في الإسلام لا تحتاج إلى رجل دين لكي يكون واسطةً بين الإنسان وربه، بل إن الإنسان يستطيع وهو مع نفسه في أي وقت شاء أن يتوب، وأن يفتح صفحةً بيضاء لبداية حياة جديدة..
مثل هذا المبدأ كفيل بأن يمنح الإنسان طاقةً تحرريةً من الأفكار والمشاعر السلبية، وألا يبقيه رهينةً للماضي وأوزاره، بل يفتح له باباً في اتجاه المستقبل فيقبل نحو الحياة بمشاعر إيجابية، وقد رفع عنه وزره الذي أنقض ظهره..لقد أدرك الكاتب الهولندي فرانز ستال مع أنه غير مسلم روعة هذا المبدأ من مبادئ الإسلام فقال: إن التوبة في الإسلام هي سلاح خلقي عظيم فيها الندم والتغير والتحول..
من معالم تحرير الإنسان أن القرآن جاء ليؤسس للعقلية العلمية التي تحرر الإنسان من الخرافات والأوهام والظنون، فالقرآن دائماً يطالب بالحجة والبرهان quot;قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقينquot;، حتى في قضية إثبات الألوهية فإنه لا يدعونا إلى التسليم الأعمى ولكنه يخاطبنا بالأدلة والبراهين، وحين ينكر على المشركين اتخاذهم آلهةً من دون الله، فإنه يرجع سبب إنكاره عليهم بأنهم لم يأتوا ببرهان quot;أم اتخذوا آلهةً من دونه قل هاتوا برهانكمquot;، وفي مقابل ذلك فإنه يسقط الاعتبار عن اتباع الظن والهوى التي هي مناقضة للمنهج العلمي الصحيح quot;إن الظن لا يغني من الحق شيئاًquot;..
والنبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو الترجمة البشرية النموذجية للقرآن نجد في حياته حرصاً على تأسيس العقل العلمي ومحاربة الخرافات والأساطير التي تعشش في عقول الناس، فحين توفي ولده إبراهيم ووافق أن كسفت الشمس في ذلك اليوم شاع بين الناس بأن الشمس كسفت لموت إبراهيم، فما كان من الأب المكلوم بفقد ولده عليه السلام إلا أن تجاوز أحزانه الشخصية، مع أن حزنه كان بالغاً لكن سلامة المجتمع من الخرافات والأوهام كانت أهم، فجمع الناس وخطب فيهم بأن الشمس والقمر لا تكسفان لموت أحد أو حياته..
كان بوسع محمد عليه الصلاة والسلام لو أنه كان يسعى لمجد شخصي أن يسكت على الأقل، ولم يكن أحد ليلومه على سكوته في ظل انشغاله بالحزن على ولده، وأن يترك هذه الشائعة تأخذ مداها حتى تحيطه بهالة من العظمة والتقديس أمام الناس، ولكن غيرته على إيمان الناس، وصدقه في تبليغ رسالته أبى عليه إلا أن يسارع إلى تصحيح المفاهيم الخاطئة لتظل العقول متحررةً من أي وهم أو خرافة..

وبعد:
فهذه إشارات متناثرة فاضت بها خواطري توضح طبيعة الرسالة التحررية التي جاء بها القرآن، ليس تحريراً بالمعنى الضيق، بل إنه تحرير عميق يبدأ من داخل الإنسان، فيحرر أفكاره ومشاعره، وحين يتحقق ذلك فإن تحرير الأوطان يأتي كنتيجة طبيعية..
هي إشارات لا توفي الموضوع حقه، ولو أننا خصصنا وقتاً وجهداً كافياً للتدبر في منهج القرآن لما وسعت كتب ومجلدات الحديث في هذا الموضوع الحيوي..
لكن وبعد كل هذه الآيات البينات سيظل هناك من يجادل ويجحد الحقائق، ولا ضير..فالقرآن ذاته أخبر عن هذا الفريق: quot;وإنا لنعلم أن منكم مكذبينquot;، وقد اقتضت سنة الحياة أن فريقاً من الناس لا يؤمنون مهما كانت الأدلة ساطعةً، ومشكلة هؤلاء في عدم الإيمان لا ترجع إلى نقص الأدلة، بل إلى عمى البصيرة الذي يصيب الإنسان فلا يرى الحق مهما كان أبلجاً quot;وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بهاquot;، وتبقى مثل هذه الأدلة هدى ونور لمن صدقت نيته في طلب الحق فيزداد إيماناً مع إيمانه، ولا يزيد الظالمين إلا خساراً..
والحمد لله رب العالمين..
[email protected]