التأثير على الوعي هو الهدف الذي تسعى إليه كل الأطراف المتنازعة بغض النظر عن أيديولوجياتها ومنطلقاتها الفكرية والسياسية. بل إن صناعة الوعي البشري هي فلسفة الصيرورة التاريخية ففي القرآن الكريم يرد قول الله تعالى quot;ليحق الحق ويبطل الباطلquot; أي أن غاية صيرورة الأحداث عبر التاريخ البشري هي أن يكون الناس قادرين على التمييز بين الحق والباطل، فالتاريخ يسير في اتجاه صناعة وعي الناس بالحق quot;حتى يتبين لهم أنه الحقquot;..
والحروب في جوهرها ما هي إلا محاولات تأثير على قناعات الخصم وتطويعها بما يخدم مصالح الذات..
حين يقاتل جيش جيشاً آخر فإن الهدف من هذا القتال لا يكون الإفناء المادي للخصم، وبذلك لا تقاس نتيجة المعركة بعدد الجنود الذين تمكن من قتلهم أو المعدات التي تمكن من تدميرها، بل يقاس بالأثر النفسي الذي تمكن من إحداثه في صفوف الخصم فربما لا يقتل سوى بضعة عشرات، ولا يدمر سوى بضع مركبات، ومع ذلك تتولد قناعات لدى الخصم بعجزه عن المواجهة فيستسلم ويسلم للطرف الآخر بمطالبه، فيكون الانتصار، وفي المقابل إن كان الطرف الآخر يتمتع بروح معنوية عالية وبإيمان عميق وبدافعية قتالية فإنه لن يتأثر حتى لو كان القتلى بالآلاف ولن يسلم للطرف الآخر بمطالبه، وسيقف الطرف الآخر عاجزاً عن حسم المعركة ولن ينفعه في ذلك إمكانياته العسكرية وقدراته التدميرية..
إذاً فالحروب في جوهرها هي محاولات للتأثير على القناعات.ومقياس الانتصار أو الهزيمة هو مدى القدرة على تشكيل وعي الطرف الآخر بما يتناسب مع الأهداف السياسية، فكل طرف يسعى إلى خلق وعي لدى جمهوره بقدرته وتفوقه لحثه على الصمود، كما يسعى في الوقت ذاته إلى خلق وعي في صفوف الأعداء بعبثية محاولاتهم وضلال سعيهم، لبث الهزيمة في نفوسهم..
من هنا تتضح أهمية الحرب الدعائية والإعلامية فهي ليست جزءً من المعركة وحسب بل هي جوهر المعركة، فما قيمة أن يتمكن طرف من إلحاق هزيمة نكراء في صفوف عدوه في إحدى المعارك بينما لم تنتشر أخبار المعركة سواءً في جمهوره أو في جمهور عدوه، حينها سيظل جمهوره في حالته الأولى من الإحباط واليأس ولن يساهم هذا الإنجاز الميداني في الارتفاع بروحه المعنوية وإعطائه دفعةً قويةً في اتجاه النصر، وفي المقابل فإن جمهور العدو الذي كان يتحلى بروح معنوية عالية قبل هذه المعركة المفترضة سيظل محافظاً عليها ولن تتأثر سلباً بهذا الإخفاق الميداني، وبذلك لا تكون هناك أي قيمة عملية لهذه المعركة ما دام الإعلام غائباً عنها وما دامت آثارها النفسية لم تتحقق.
قدرتنا على التفريق على الغاية والوسيلة يساهم في وضوح رؤيتنا وترتيب أولوياتنا، فالهدف هو التأثير في وعي الخصم، والمواجهة العسكرية ليست سوى وسيلة من أجل تحقيق هذا الهدف، والوسيلة بطبعها يمكن استبدالها بينما الهدف ثابت لا يتغير..وكما عرف القائد الألماني كلاوزيفيتس في القرن التاسع عشر الحرب بأنها استمرار للسياسية بوسائل أخرى، فهدف الحرب ليس عبثية القتال وترف استعمال السلاح بل خلق واقع سياسي جديد وترسيخ قناعات جديدة لدى الطرف المقابل..وحين يفتقد حامل السلاح الرؤية ويصير القتال والقتل هدفاً قائماً بذاته فإنه يتحول إلى قاطع طريق، كما أنه يقدم لنفسه الوصفة المثالية للفشل والإخفاق لأنه سيظل يقاتل وحسب دون أي رؤية سياسية..
لقد أشار الإسلام إلى أهمية العنصر النفسي في المواجهات فتحدث القرآن عن قذف الرعب في قلوب الأعداء quot;وقذف في قلوبهم الرعبquot;، وما داموا قد وصلوا إلى هذه الحالة النفسية فإنه لم يعد هناك داع لاستعمال السلاح بحقهم واعتبر القرآن تحقيق الأهداف دون الاضطرار إلى القتال الفعلي منةً من الله تستحق الشكر quot;وكفى الله المؤمنين القتالquot;، quot;وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهمquot;..والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر من الخصائص الخمس التي أعطيت له ولم تعط لنبي قبله أنه نصر بالرعب مسيرة شهر، أي أنه كثيراً ما كان يحقق أهدافه السياسية حتى دون أن يضطر إلى القتال المباشر، وإنما بالتلويح فقط بأوراق قوته..ومصطلح الرعب هنا هو المصطلح المرادف للردع في عصرنا الحديث وهو الذي بدأت الدول تتنبه إلى أهميته في العقود الأخيرة، فالدول التي تمتلك أسلحةً نوويةً فإنما تفعل ذلك لردع الآخرين عن التفكير في إيذائها، أي للتأثير على قناعاتهم ولهزيمة وعيهم، وليس للاستعمال الفعلي، فهو لم يستعمل منذ اختراعه سوى مرة واحدة، والدول التي تقتنيه تدرك هذه الحقيقة، وتعلم أن وظيفته هو تحقيق مكاسب سياسية أكثر من استعماله فعلياً، وهذا ما تتعمد إسرائيل تسريبه للإعلام بين فينة وأخرى بأنها تمتلك ترسانةً نوويةً هائلةً لإبقاء العرب في حالة خوف وإحجام عن مواجهتها..
الانتباه إلى قيمة البعد النفسي في المعركة يجعل أداءنا أكثر فاعليةً، ويقلل من التكلفة المدفوعة، فمثلاً عندنا في فلسطين علينا أن نحدد أولاً هدف أي معركة قبل أن نخوضها، هل الهدف هو الإفناء الصفري للاحتلال بمعنى إبادة أفراده فرداً فرداً، أم الهدف هو تقويض المشروع الاستيطاني العنصري وتفكيكه، وجعله كياناً طارداً للمستوطنين لا جاذباً لهم..
من الناحية الواقعية يبدو الهدف الأول بعيداً فليس من اليسير إبادة ستة ملايين إسرائيلي، كما أنه ليس هو مراد النضال الفلسطيني، فالعاقل يهدف إلى أكل العنب وليس إلى مقاتلة الناطور، والشعب الفلسطيني يعنيه العودة إلى دياره وتفكيك المشروع العنصري الاحتلالي الجاثم فوق أرضه، وما يضيرنا إذا تحقق هذا الهدف أن يرحل المحتلون إلى بلادهم الأصلية سالمين بأجسادهم..
صحيح أن القتال العسكري يساهم في بعض الأحيان في تحقيق هدف تقويض المشروع الاستيطاني وذلك بخلق قناعات لدى المستوطن الإسرائيلي بفداحة ثمن بقائه في أرض محتلة، ولكن حتى في هذه الحالة فإن الهدف لا يتحقق بمجرد القتال العسكري، ولا يقاس النجاح إلا حين يؤدي فعلاً إلى أهدافه النفسية..
هذا الوضوح في الرؤية والهدف ينبهنا إلى أفضل الوسائل في المواجهة، فكل وسيلة تؤدي إلى التأثير على قناعات المجتمع الإسرائيلي بأن تكلفة احتلاله باهظة يدفعها من راحته النفسية وأمنه واستقراره هي وسيلة نضالية فاعلة حتى وإن لم تكن تتضمن إضراراً مادياً مباشراً بأفراد الاحتلال لأننا قد اتفقنا أن الهدف هو القضاء على المشروع العنصري الاحتلالي وليس القضاء على الأفراد..
هنا تبرز قيمة الوسائل الشعبية السلمية في مواجهة الاحتلال مثل التظاهرات السلمية والمقاطعة الاقتصادية والثقافية والملاحقات القضائية، والقوافل البحرية والبرية والجوية وغيرها مما تبدعه العقول، فهذه الوسائل مع أنها لا تضر مباشرةً بأفراد المجتمع الإسرائيلي إلا أنها تضرب في المفاصل الحساسة لكيانه وتعمل على مصادرة عناصر قوته الاقتصادية والسياسية والإعلامية، وتبقي المجتمع في حالة من الاستنزاف النفسي..
مع الأسف لا يزال فريق من الناس لم يتنبه لجدوى الحرب الدعائية والنفسية فهو لا يؤمن بجدوى أي نشاط سياسي أو إعلامي أو جماهيري لا يعتمد على إمساك السلاح باليد مباشرةً، ولا بديل في قناعته عن القبض على السلاح بيديه والانطلاق نحو العدو تقتيلاً وتدميراً.
أصحاب هذه النزعة المادية التي لا تثق إلا بما هو محسوس وما يمكن لمسه باليد لمساً مباشراً لا يعرفون ما الذي يريدونه بالضبط فهم مفتقدون إلى الرؤية الواضحة، وبذلك يضيعون على أنفسهم فرصاً ثمينةً لتحقيق الانتصار بأقل الخسائر لا لشيء إلا لأن هذه الطرق لا تتضمن إشباعاً لنزعتهم المادية..
نسوق لهؤلاء مثالاً من الثورة المصرية ففي هذه الثورة لم يكن الثوار بحاجة إلى الوصول إلى قصر الرئاسة ومع ذلك تمكنوا من إسقاط الرئيس، لأن وجودهم عن بعد وتلويحهم بالوصول إليه كان كافياً لإرباك النظام ولقلب الأمور رأساً على عقب في حساباته، فالوصول المادي إلى القصر ليس هدفاً لذاته، بل إن الهدف هو النفاذ إلى قناعات النظام الحاكم وإشعاره بعبثية محاولاته للبقاء مما أدى في لحظة يأس إلى السقوط.
إن معركتنا مع عدونا الذي يحتل أرضنا هي معركة على صناعة الوعي، وبقدر ما نتمكن من خلق حالة من الوعي المحلي بالصمود في الأرض والتشبث بالحقوق، والوعي العالمي بعدالة قضيتنا، والوعي في صفوف العدو بعبثية محاولاته شطب حقنا، وبارتفاع تكلفة احتلاله وعدوانه بقدر ما ننجح وننتصر، حتى وإن لم تكن الوسيلة إلى ذلك تتضمن أعمالاً قتاليةً مباشرة..
والله أعلم..
[email protected]