في الذكرى 33 على توقيع اتفاقية quot;كامب ديفيدquot; للسلام عام 1978، تشهد العلاقات بين مصر واسرائيل توترا غير مسبوق، قصف الجيش الإسرائيلي دورية مصرية قتل خلالها جتود مصريون علي الحدود، اقتحام السفارة الإسرائيلية في القاهرة وجلاء كافة رعاياها بعد اسقاط العلم الإسرائيلي واحراقه أمام العالم، اندلاع موجة من quot;المشاعر الوطنية الغاضبةquot; والمعادية لإسرائيل منذ أكثر من 30 عاما في الشارع والمؤسسات ودور العبادة والإعلام.
أرتفاع نبرة معظم التيارات السياسية المصرية المطالبة بإلغاء اتفاقية quot;كامت ديفيدquot; أو تعديل بنودها بعد ثورة 25 يناير عام 2011، ليس من باب التنافس السياسي (فقط) علي مضمار الانتخابات البرلمانية القادمة، وإنما يشير أيضا إلي أمر (جديد).. (لم يكتشف بالقدر الكافي) وهو: أن وعي غالبية المصريين قد توقف عند لحظة حرب أكتوبر عام 1973، ولا يريد أن يستوعب ما بعدها (أو يتقبله) حتي خلع الرئيس quot;مباركquot; واسقاط نظامه ورموزه، أو قل أن سقوط مبارك أيقظ المصريين علي حقيقة مرة، هي: ضياع أكثر من ثلاثين عاما (هباء) من تاريخهم.
حضور المشير محمد سيد طنطاوي (رئيس المجلس العسكري) شخصيا، وبصحبة كبار قادة القوات المسلحة، لتقديم واجب العزاء في وفاة quot;خالدquot; إبن الرئيس جمال عبدالناصر، الذي هتف له البسطاء أثناء تشييع جنازته: quot;يا خالد قول لأبوك ... الشعب بيحبكquot;، بمشاركة كافة القوي الوطنية والسياسية، كان يتجاوز فكرة quot;الواجبquot; ذاتها إلي إرسال مجموعة من الرسائل (للداخل والخارج): أنه ليس من حق أحد أن يزايد علي مواقف المجلس العسكري الحاكم في مصر الآن، وأن القوات المسلحة لا تنحاز إلي عهد (مبارك) البائد، كما تروج بعض القوي السياسية (الأخوان المسلمون والناصريون والقوميون)، بقدر ما تنتمي إلي ثورة يوليو 1952 وأبرز رموزها.
اللافت للنظر أن quot;الغائب الحاضرquot; بعد 33 سنة هو الرئيس quot;محمد أنور الساداتquot;، الذي ساهم في معظم (التناقضات) الرهيبة التي يعيشها المصريون إلي اليوم، والتي أصبحت تستلزم (الحسم أو التجاوز) بعد ثورة 25 يناير 2011 ، أو العودة بمصر إلي quot; ما قبل quot; عصر السادات بسنوات!
فقد حطم السادات الطابع الشمولي للدولة المصرية رغم أن حكمه كان شديد الفردية، حمل كل سمات الشمولية والديكتاتورية، فتح الباب أمام التعددية الحزبية لكنها ظلت تعددية هشة ومقيدة، أراد ديمقراطية' تفصيل' علي مقاس بزته العسكرية، لكنه سرعان ما ضاق بالديمقراطية فأصدر' قانون العيب'، وحاصر النشاط السياسي لأحزاب المعارضة، وتعقب المختلفين في الرأي فيما سمي بالمساءلة السياسية.

حقق في حرب أكتوبر1973 أكبر انتصار عسكري في التاريخ الحديث واستعاد هيبة مصر في المحافل الدولية، وذهب إلي القدس المحتلة في1977 رغم المعارضة العربية وأبرم اتفاقية' كامب ديفيد' للسلام .


من أبرز مفارقات السادات أنه كان يعلن في خطبه وأحاديثه لوسائل الإعلام، أنه:' لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين'، بينما تحولت أنصاف الاعتقادات في عهده إلي اعتقادات تامة عند العامة، وكان أول من وظف الدين في الصراع السياسي الداخلي، إذ تحالف مع الجماعات الإسلامية لضرب قوي اليسار، ولعب بالنار حتي ألتهمته في يوم عرسه، ولا تزال جذوتها مشتعلة تحت الرماد وفوقه كلما هبت الرياح، وهو ما أدي إلي اهتزاز عنيف لمقومات الدولة المدنية نتيجة التضارب بين ثلاثة أنواع من الحريات الأساسية، الحرية الدينية، والحرية في العمل الاقتصادي، والحريات السياسية.

في ظل هذا المناخ برز خطاب ديني جديد في شكله ومضمونه يستخدم تعبيرات وطقوس كغطاء لما يجري في العمق، يتظاهر بالتقوي والورع بينما الواقع يسير في الاتجاه المعاكس، حيث اعتبر ألمع المشايخ شهرة في السبعينيات: أن الثراء السريع مظهر من مظاهر رضاء الله.
وهو خطاب كان يبرر ويكرس للدولة الرخوة بمفهوم عالم الاجتماع السويدي (جنار ميردال) وبتأصيل جلال أمين في كتابه' مصر والمصريون في عهد مبارك 2008 - 1981'، إذ يقول:' تحولت الحكومة في مصر خلال السبعينيات إلي دولة رخوة، وتضاءلت مكانة الوزراء، وظهر من الموظفين من يذهب إلي مكتبه الحكومي في الصباح ويتاجر في العملة بعد الظهر، وأصبح كل شيء خاضعا للمفاوضة والمساومة، وكل شيء متوقف في النهاية علي الشطارة'.

إن إقراره لقانون الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات كان يعني ضمنيا تفكيك القطاع العام والصناعات الوطنية وإفساد المشروع الوطني والمكتسبات الاجتماعية للطبقات الشعبية وإعادة عصر العمالة الأجنبية، فكانت انتفاضة18 و19 يناير1977 نقطة فاصلة بين عصرين.
ولعب الإعلام دورا في تغييب الوعي وانتشار حمي الاستهلاك من خلال المسلسلات والإعلانات التي داعبت تطلعات الناس(المكبوتة) وطموحاتهم, وزاحمت أغان من قبيل(السح الدح أمبو) و(أم حسن) و(بنت السلطان) لأحمد عدوية في سوق الكاسيت روائع فيروز وعبد الحليم وأم كلثوم، وفرضت ثقافة' الفهلوة' والمعلبات سابقة التجهيز مع انتشار الاستيراد والتوكيلات الأجنبية الأمريكية.

لكن يبدو أن التبعية الكاملة لأمريكا كانت لها آثار أبعد مدي من حدود الجغرافيا والتاريخ وقتئذ، وعندما قال في وقت مبكر إن99% من أوراق اللعب في يد أمريكا، كان يحسم- دون أن يدري- الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة لصالح الأخيرة.
لم يشفع للرئيس المؤمن محمد أنور السادات أنه رئيس مسلم في دولة مسلمة، ولا اعتبار نفسه' آخر الفراعنة' و'كبير العائلة' في' دولة العلم والإيمان'، ولا ظروف عصره الحافل بالأحداث التاريخية والمفعم بالتطورات المتلاحقة في الشرق الأوسط والعالم، فقد تمنت معظم القوي السياسية رحيله، حيث لقبه اليمين خصوصا الديني بـ' الطاغوت الكافر' ووصفه اليسار بـ' العميل الخائنquot;.
هل ما نشهده اليوم بعد 33 سنة علي اتفاقية quot;كامب ديفيدquot;، وثلاثة عقود عجاف من عهد مبارك، هو نهاية عصر السادات بالفعل، أم العودة إلي quot;ما قبلهquot;، أم الانطلاق إلي quot;ما بعدهquot;؟


[email protected]