الأفكار في مجال الفلسفة ليست (آراء)، أو قل لا توجد آراء في الفلسفة.. لأن الفلسفة ndash; إذا جاز التعبير - هي المعرفة الموضوعية بالحقيقة، وحسب هيجل ''ليس الإنسان هو الذي يصنع الفلسفة، بل إن الفلسفة من خلال الإنسان تصنع ذاتها''.
الفيلسوف الاستثنائي نيتشه، شكك في أشهر مقولة فلسفية في التاريخ، قال بها أبو الفلسفة الحديثة quot; رينيه ديكارت quot;، وهي: (أنا أفكر إذا أنا موجود)... لماذا؟.. '' لأن الفكرة ndash; كما يقول ميلان كونديرا - تأتي عندما (تريد هي) لا عندما (أريد أنا)؛ لذلك فإنها حقيقة مزيفة تلك التي تدعي أن الفاعل ''أنا'' ضروري للفعل ''أفكر''.
ويبدو ان لديكارت (جد أعلي) هو quot; أفلاطون quot; تأثر به وحمل جيناته الفلسفية، ليس فقط في فكرة quot; الثنائية quot; أو الأزدواجية بين: السماء والأرض.. العقل والجسد.. الخير والشر... إلي آخر هذه الثنائيات الميتافيزيقية، وإنما في (ألاعيبه) وبهلوانيته أيضا، وكما لاحظ ريتشارد شاخت في كتابه quot; رواد الفلسفة الحديثة quot; فإن أدلة ديكارت علي أثبات وجوده أولا ثم أثبات وجود الله ثانيا وأخيرا أثبات وجود العالم، لا تستقيم من حيث الترتيب المنطقي وإنما تكشف عن (حركة زجزاجية) تتملق رجال الدين وتخشاهم في عصر محاكم التفتيش، وكان الأحري به أن يبدأ من الذات ثم العالم ثم الله في حركة فكرية تصاعدية.
quot; جاك دريدا quot; خصص لألاعيب أفلاطون دراسة مستقلة هي quot;صيدلية أفلاطونquot;، فقد أظهر التفكيك أن زعم أفلاطون - في محاورة quot;فايدروسquot; - quot;بأنه لا يقوم إلا بمحاولة لإعادة تسجيل كلام أستاذه وأبيه الفلسفي سقراط، هو مجرد حيلة بارعة، للقضاء علي أستاذه قضاء مبرما، أو قل انه سار علي نفس خطي أستاذه (بممحاة).
فقد كان أفلاطون يقوم بإحياء سقراط (في الظاهر) حين يعيد كتابة أقواله، ولكنه كان أيضًا يقتل سقراط (في العمق) حين يخرق قانون الأخير في تحريم الكتابة. وهكذا فإن quot;صيدلية أفلاطونquot; تأسست علي مبدأ quot;الكتابةquot; بوصفها الفارماكون (Pharmakon السم والترياق معًا)، الذي يقتل ويعالج في آن واحد.
وأفلاطون الذي يحذرنا من خطورة فكرة quot;الشبهquot; وquot;الشبيهquot;، في محاورة quot;السوفسطائيquot;، حيث يقول علي لسان quot;الغريبquot;: quot;لما كان الذئب يشبه الكلب، وأكثر الحيوانات وحشية يشبه أكثرها أهلية، وجب علينا، إن أردنا ألا نخطئ، أن نحذر الشبه قبل كل شيء، فالشبه مذلةquot;.
هو نفسه الذي دشن فكرة quot;الشبيهquot; في الفلسفة، الذي يلغي quot;الآخرquot; وquot;المختلفquot; وجوديا ومعرفيا، فقد لاحظ quot;جيل دولوزquot; في كتابه quot;ما الفلسفةquot;: ان (سقراط) الشخصية الرئيسة في محاورة quot;الجمهوريةquot; لأفلاطون، لم يتوقف البتة عن جعل الحوار مستحيلاً. لقد طرح أسئلة علي أصدقائه، لكنه كان يعرف الجواب مسبقاً، أي انه حول الصديق، إلي صديق لمفهوم واحد.
لكن يبدو أن quot; لعنة أفلاطون quot; وألاعيبه قد أصابت رائد التفكيك نفسه، والحجج التي استخدمها ضد أفلاطون، هي نفسها أصبحت توجه إلي جاك دريدا اليوم. ففي كتاب الفيلسوف المعاصر quot; بيتر سلوتردايك quot; والمعنون quot; دريدا مصريا quot; الصادر عام 2009، يثبت أن جوهر عملية التفكيك هو quot; بناء quot; مشروع فلسفي جديد، يهدف إلي ابتكار (آلة أو ماكينة) غير قابلة للتفكيك (أو خالدة) مثل الأهرامات المصرية تماما؟.
أن فكرة quot; الفارماكون quot; عند دريدا مستلهمة من (الحية المصرية - النحاسية) التي وصفها موسي في العهد القديم، وأيضا فكرة quot; الأثر quot; حيث كان المصريون هم أول من أمتهنوا قصاصة الأثر علي رمال الصحراء، ناهيك عن ان فرضية دريدا الأساسية: أن كل شئ في الوجود يحمل نقيضه، لها علاقة بفكرة التوحيد (وليس التفكيك) في الديانتين المصرية واليهودية، وقد سبق وأفاض في هذه الجزئية عالم النفس الشهير سيجوند فرويد في كتابه quot; موسي والتوحيد quot;.
سلوتردايك يستخدم دريدا ضد دريدا، كما أستخدم دريدا: أفلاطون ضد أفلاطون، ومن قبلهم جميعا quot; نيتشه quot;الذي استخدم ديكارت ضد ديكارت، وغيره الكثير.

[email protected]