أخيرا، أصبحت الولايات المتحدة مستعدة لأن تستمع لنصيحة المفكر الاسترالي quot; كورال بيل quot; بعد عقد من الزمان، وهي: quot; أن التحدي في عالم ما بعد الحرب الباردة، هو أن تعترف أمريكا بتفوقها بشرط أن تدير سياستها كما لو كانت تعيش في عالم ملئ بمراكز القوي، ففي مثل هذا العالم ستجد الولايات المتحدة شركاء حقيقيين، ليس في تقاسم الأعباء النفسية للقيادة فحسب، بل في صياغة نظام عالمي جديد quot;.
في 20 سبتمبر الماضي، صدر في واشنطون تقرير مهم، أعاد صياغة نصيحة بيل في نظرية استراتيجية مستقبلية، وحمل هذا العنوان المثير: quot; 2025... الحكم الرشيد في مرحلة حرجة quot;.
يستشرف التقرير الصادر عن المجلس القومي للاستخبارات الأمريكية، وشارك في إعداده لأول مرة معهد الاتحاد الأوروبي، السنوات الخمس عشرة المقبلة، لمجابهة التحديات التي قد تنشأ، بناء على ما نعرفه اليوم من مخاطر تواجه العالم، مثل: نقص الغذاء والمياه بسبب تغير المناخ، وسوء الإدارة والانفجار السكاني وتدهور الزراعة والصراعات العرقية.
ويشير إلي: quot;أن تكاثر القضايا الدولية التي تواجه الدول، وتعقيدها البالغ، يكتسحان قدرة المنظمات الدولية والدول القومية على معالجتها. فمع ظهور العولمة وتناميها بإضطراد، تفاقمت المخاطر المحدقة بالنظام الدولي إلى درجة أن المخاطر المحلية (سابقا) لم يعد في الإمكان احتواؤها محليا. وليس أدل على ذلك من تفشي أزمة الغذاء العالمي في أكثر من 50 دولة عام 2008، مما هدد الأمن والاستقرار الداخلي في هذه الدول، وأنعكس ذلك بدوره علي الاستقرار الإقليمي، وأرهق قدرة المنظمات الدولية، مثل برنامج الغذاء العالمي، على الاستجابة لهذه التحديات الجديدة quot;.
لقد أصبحت المشكلات والأزمات في عالم اليوم تتطلب نظاماً لا مركزياً عالمياً يرتكز علي دوائر ومستويات أوسع من حدود وقدرات المنظمات الدولية والدول القومية ذات السيادة، بالنسبة إلي بعض الأمور، وأضيق من هذه الحدود والقدرات في أمور أخري، أو قل أن المنظمات الدولية والدول القومية أضحت أصغر كثيراً من أن تقدر علي الأشياء الكبيرة، وأكبر كثيراً من أن تقدر علي الأشياء الصغيرة.
quot; إن توفر حكم رشيد ناجع على نطاق عالمي أمر بالغ الأهمية، لمعالجة طائفة من التهديدات والمخاطر مثل الصراعات العرقية والأمراض المعدية والإرهاب فضلا عن جيل جديد من التحديات العالمية، من بينها تغير المناخ وأمن الطاقة وشح الغذاء والماء وتدفقات الهجرة الدولية والتكنولوجيات الحديثةquot;، لكن ما يعقد احتمالات قيام الحكم العالمي الرشيد علي امتداد السنوات الخمس عشرة المقبلة، هو: التحول إلى عالم متعدد الأقطاب، وأيضا تحول أدوات القوة وآلياتها نحو منظمات وشبكات ناشطة، لا تنتمي إلي الدولة القومية بالمعني المعروفquot;.
يورد التقرير ثلاثة آثار ناجمة عن العولمة، تؤكد الحاجة إلى الحكم العالمي الرشيد، وهي: التكافل الاقتصادي وطبيعة التحديات المترابطة، والتشابك بين التحديات الداخلية والخارجية. حيث أن العالم قد تحول بالفعل إلى عالم ملئ بمراكز القوي (كما تنبأ كورال بيل).
الفكرة المحورية التي يستند إليها واضعوا التقرير، هي: quot;إن النفوذ الاقتصادي الواسع للدول النامية، يزيد أيضا من نفوذها السياسي خارج حدودها القوميةquot;. الأهم من ذلك، أن (اتجاهات السياسة الدولية) تتحول اليوم من الدول المتقدمة إلى الدول النامية وإلى العالم النامي إلى حد ما، كما أنها تتحول أيضا إلى المنظمات والكيانات التي ليست لها صفة الدولة، مثل: الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقوميات، والمنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني، والمؤسسات الدينية وجماعات المصالح الخاصة.
أضف إلي ذلك، أن وجهات النظر المتباينة والمتعارضة، والشكوك التي تحيط بفكرة (الحكم العالمي الرشيد) أصلا، والتي ينظر إليها في معظم دول العالم على أنه (صناعة غربية بإمتياز)، تقف علي النقيض من التقاليد والعادات المحلية والإقليمية، وهو ما يزيد من صعوبة تذليل التحديات في المستقبل.
وحتي إذا سلمنا جدلا، بالمشاركة الفعالة للمنظمات والكيانات التي لا تنتمي إلي الدول القومية، في تعزيز الحكم العالمي الرشيد وقدرته على حل الصراعات، فإنه في المقابل توجد حزمة من التنظيمات (الخطيرة) مثل شبكات المافيا الدولية والمنظمات الإرهابية التي أمدتها التكنولوجيا الحديثة بقوة إضافية، أصبحت تشكل تهديدا غير مسبوق بالنسبة للنظام العالمي.
الجديد في التقرير هو اعتباره أن الحكم العالمي الرشيد لا يعني quot;حكومة عالميةquot;، فمازلنا أبعد ما نكون عن الحلم الكانظي ويوتوبياه التي تصورها قبل أكثر مائتي سنة، لأنه من غير المحتمل أن تتخلى الدول عن سيادتها القومية (بالكامل)، كما أن هناك اهتمامات متعددة ومتباينة لكل دولة من الدول، فضلا عن الشكوك إزاء مدى فعالية المؤسسات الدولية الراهنة (كالأمم المتحدة)، ومع ذلك فإن التعاون الدولي ممكن وقابل للتنفيذ ومطلوب بقوة لمجابهة تحديات المستقبل.
التعليقات