يحتفل العالم هذه الأيام rlm;، وأوروبا بصفة خاصة، بذكري مرورrlm;65rlm; عاما علي انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهزيمة الفاشية في ايطاليا ثم النازية في ألمانيا. أهم ما في هذا الاحتفال من الناحية الفلسفية، إعادة الاعتبار لأفكار أرنست كاسيرر ndash; Cassirer (1874 ndash; 1945)، صاحب فلسفة الأشكال الرمزية، والفرد في فلسفة عصر النهضة، والتنوير والمعرفة التاريخية، والدولة والأسطورة، وغيرها.
تكمن أهمية كاسيرر بالنسبة لهذه المناسبة التاريخية، في كونه من أوائل الفلاسفة الألمان الذين نبهوا الأذهان لأهمية التمييز الدقيق بين السياسة كعلم والأساطير السياسية، وضرورة التفرقة بين فلسفة التاريخ وتنبؤات العرافين، وكأن روحه الوثابة قد أبت ألا ترحل عن عالمنا، إلا بعد أن تفرغ حمولتها مع نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945.
فقد حلل في أحد فصول كتابه المهم (الدولة والأسطورة)، ظاهرة أوزفالت شبنجلر وكتابه (أفول الغرب) في عشرينيات القرن العشرين، تحليلا علميا ونفسيا، تاريخيا واستشرافيا، وهو يعزو نجاح كتاب شبنجلر أساسا، إلي عنوانه وليس إلي مضمونه، إذ كان كالشرارة الكهربائية التي ألهبت خيال القراء.
نشر الكتاب في يوليو عام 1918 عند نهاية الحرب العالمية الأولي، وعبر بطريقة لاذعة ونفاذة عن القلق العام وقتئذ. فهو لم يكن كتابا علميا، علي حد تعبير كاسيرر: لأن شبنجلر كان يحتقر كل مناهج العلم، ويتحداها علنا، وهو القائل: quot; الطبيعة تبحث علميا، أما التاريخ فينظر إليه نظره شاعرية quot;.
غير أن أهمية هذا الكتاب، حتي اليوم وغدا، تكمن في كونه يمثل نموذجا للأساطير السياسية الحديثة: quot; التي تتجه الآن اتجاها مختلفا للغاية. فهي لا تبدأ بالمطالبة بتحريم أفعال معينة. أنها تهدف إلي تغيير الناس حتي تستطيع تنظيم أفعالهم والتحكم فيها. إن أثر الأساطير السياسية لشبيه بالحية التي تحاول شل فريستها قبل أن تفترسها والناس يقعون في أسرها بغير أن يظهروا أية مقاومة جادة لها. فهم يتعرضون للهزيمة والخضوع قبل أن يدركوا بالفعل ما حدث quot;. (1)
ويضيف: quot; إن ساستنا المحدثين يعرفون كل المعرفة أن تحريك الجموع الكبيرة اعتمادا علي قوة الخيال أسهل بكثير من تحريكها بواسطة القوي المادية الصرفة. ولقد أستفادوا أعظم فائدة من هذه المعرفة. وأصبح الساسة نوعا من العرافين في المسائل العامة، وأصبح التنبؤ عنصرا أساسيا في فن الحكم الجديد، وأصبحت الوعود تلقي بغير حساب بغض النظر عن استحالتها أو عدم إمكانها. فهي وعود يوتوبية متعددة يتكرر الوعد بها بغير انقطاع.quot; (2)
لقد خلط quot; شبنجلر quot;، ومن لف لفه، حسب كاسيرر، بين الرؤي النبوية والوقائع وصنع منها فلسفة للتاريخ quot; فهو يزهو بأنه قد اكتشف طريقة جديدة يمكن الاعتماد عليها في التنبؤ بالأحداث التاريخية الحضارية، علي نفس النحو الذي يتبعه عالم الفلك في التنبؤ بخسوف الشمس أو القمر، مع الاعتماد علي دقة مماثلة. وعلي حد تعبيره: quot; في هذا الكتاب أول محاولة ترمي إلي تحديد الاتجاه الذي سيتجه إليه التاريخ، وتتبع المراحل التي لم يكشف عنها النقاب بعد في مصير أية حضارة، علي الأخص في الحضارة الأوروبية الأمريكية، أي في الحضارة الوحيدة في عصرنا وفي كوكبنا التي بلغت بالفعل حد الكمال quot;. (3)
لذلك يؤكد كاسيرر علي أن: quot; كتاب شبنجلر في الواقع من أعمال التنجيم في التاريخ. أو ربما كان عمل أحد العرافين، كما يظهر من عرض رؤياه الكئيبة، التي لا تري الأشياء إلا في صورة نور أو ظلام. quot; (4).
quot; إن أية فلسفة للتاريخ تعتمد علي نبؤات كئيبة بتدهور حضارتنا ودمارها المحتم، وتؤمن بأن quot; ارتماء quot; الانسان من سماته الأساسية تكون قد أعلنت يأسها من أية مشاركة إيجابية في إنشاء الحضارة الإنسانية وإعادة إنشاءها. إن مثل هذه الفلسفة قد نبذت مثلها النظرية والأخلاقية، ومن ثم قد يصبح بالإمكان استخدامها أداة طيعة في يد الزعماء السياسيين. (5).
لقد اعتقد شبنجلر ان نهوض الحضارة، وتدهورها وأفولها، لا يعتمد علي ما يدعي بقوانين الطبيعة، ولكنه يخضع لقوة أعظم هي قوة quot; المصير quot;، وفكرة المصير في فلسفة التاريخ الحديث تعود أولا إلي القديس أوغسطين ndash; (354 ndash; 430) في كتابه quot; مدينة الله quot; - Civites Dei، ثم إلي المؤرخ الفرنسى جاك بنين بوسويه - Bossuet (1627- 1704) وكتابه: quot; مقال عن التاريخ العالمى quot; - Discourse sur l'histoire universelle، الذي يتمحور حول تعاليم الكنيسة الكاثوليكية، ومن ثم فسر التاريخ الإنساني كله تفسيرا مسيحيا خالصا، فالتاريخ محكوم بالعناية الإلهية وموجه بها، حتي في فهم quot; الصدفة quot; وأسبابها. وقد كان quot; دو شامفور quot; يقول: quot; إن العناية هي اسم معمودية الصدفة quot;، وأن quot; الصدفة هي الاسم المستعار للعناية (الإلهية) quot;، وكان علينا انتظار القرن التاسع عشر حتي نكتشف مع quot; أوغسطين كورنو quot; المعني العلمي للصدفة، أو ما يعرف بفلسفة المصادفة.
وما يعنينا الآن هو أن الإنسان وفقا لفكرة المصير ليس سوى لعبة بيد أحداث تتجاوزه دائما، رغم أنه يعتقد أن لديه قدرة علي التحكم فيها، وهذه quot; الحتمية quot; ليست خاصة بالديانات الإبراهيمية التوحيدية فقط، بل وبعض المعتقدات العلمانية (الدوجماطيقية) أيضا.
إن ادعاء القدرة على التنبؤ كما تدعي ذلك بعض العرافات، سيرجع في النهاية إلى الاعتقاد بأننا أمام مستقبل حُدد مسبقا، أمام قدر يسير بنا نحو مآله (من دون أن تكون لدينا أية فرصة للتدخل). (6)
وطبقا لنظرية العناية الإلهية فإن المصير هو الذي يسير التاريخ وليست العلية أو السببية بالمعني العلمي الفلسفي، وهو يقابل quot; حتمية quot; الصراع بين الحضارات عند صاموئيل هنتنجتون، أو القائلين بالصراع بين الأصوليات في منطقتنا اليوم، الذين يريدون (تأبيد) الصراع والحروب وكأنها قدرنا الأبدي، بينما يحتفل العالم المتحضر بنهايتها اليوم!

الهوامش:
1- أرنست كاسيرر: الدولة والأسطورة، ترجمة: د.أحمد حمدي محمود، مراجعة أحمد خاكي، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1975، ص ndash; 379.
2- المرجع نفسه، ص ndash; 380.
3- المرجع نفسه، ص ndash; 382.
4- المرجع نفسه، ص - 384.
5- المرجع نفسه، ص - 386.
6- جان نويل جيانيني: الصدفة في التاريخ، ترجمة: محمد زرنين، مجلة رباط الكتب، العدد السادس.
http://www.ribatalkoutoub.ma/spip.php?article122


[email protected]