(1)
أن البحث المتواصل، علي مدار القرن العشرين، في ساحة العلوم الإنسانية في الغرب، أسفر عن ثورات معرفية ومنهجية جديدة، قضت علي التصور التقليدي للفلسفة وأساليب البحث العلمي وأدواته، ومن ثم فقدت الفلسفة - حسب التصور القديم ndash; هيمنتها (تدريجيا) علي كل العلوم، وأصبحت بدون موضوع، وهنا بالضبط تكمن أزمتها الحقيقية الحالية.
هذه الثورة التي حلت بساحة الفلسفة والعلوم الإنسانية في الغرب، لم تصل أصداؤها بعد إلي الساحة الثقافية العربية، حيث نظل نتفلسف (أو نتوهم أننا نتفلسف) وكأن الفلسفة لاتزال موجودة بصورتها التقليدية. لكن بما أن العلوم الإنسانية لم تتشكل عندنا، فإن الفلسفة بالمعني القديم سوف تظل سائدة وسوف يظل خطابها الشمولي يطن في فراغ وجودنا.
ناهيك عن ان الفكر العربي درج علي اعتماد مفاهيم ميتافيزيقية ولاهوتية في تحديد العقل العربي ذاته، وهي مفاهيم تعمل علي اعطاء هذا العقل (ماهية ثابتة) لا تتبدل أو تتغير ولا تستوعب بالتالي التطورات الحاصلة.


(2)
توجد طريقتان في البحث في تاريخ الأفكار: الطريقة الأولي تنطلق من مفهوم معين للمعرفة، وتعتبر أن قيام المعارف عملية نمو وتراكم، وأن تاريخ الأفكار عملية بناء تحاول أن تلاحق ميلاد الحقائق ونمو quot; الحقيقة quot;. أما الطريقة الثانية، فتصدر عن مفهوم مغاير، علي النقيض من الطريقة الأولي، يعتبر نشأة المعارف عملية تقويض وتراجع وحفر.
ورغم الاختلاف بين الطريقتين في البحث، وما يتبع ذلك بالضرورة من اختلاف استخدامهما للمناهج العلمية الحديثة، إلا أنهما يتفقان في الأسس العامة التي تميز تاريخ الأفكار عن أنواع التاريخ الأخري، وهي تلك الروابط التي تميز بين (اللغة والتاريخ والفكر).
وتمثل هذه المعادلة المتشابكة أهمية بالغة بالنسبة لدراسة تاريخ الفكر، أي فكر، فلا يستطيع باحث معاصر في تاريخ الأفكار دراسة مرحلة فكرية في الماضي القريب أو البعيد إذا لم يأخذ بعين الاعتبار وضع اللغة وقتئذ وطريقة التعبير السائدة والمفردات المستخدمة وعلاقة ذلك كله بالزمن ومشروطيتها به.

(3)
نظرة سريعة علي الحضارة الغربية بعصورها المختلفة تكفي للتأكد من شيوع مفردات معينة وأساليب تعبير مختلفة من عصر لعصر آخر، ومن ثم تلزم قراءة النصوص الماضية الحذر في اسقاط معانيها الراهنة علي معانيها السابقة، وهو ما يعرف الآن (بالمغالطة التاريخية)، وبمعني آخر ينبغي قراءة النصوص (قراءة تزامنية) ndash; Synchronique، لأنه لا يوجد فصل بين اللغة والتاريخ والفكر، أو هذه العلاقة الثلاثية الدائرية التفاعلية (لا الخطية أو السببية).
لقد اصبحت قراءة النصوص اليوم، خاصة بعد ازدهار البحوث اللسانية والسيميولوجية والتفكيكية، عملية معرفية شاملة تجمع التحليل اللغوي والتساؤل التاريخي والتدبر الفكري لإستخراج جدلية: اللغة التاريخ الفكر.
ورغم التطورات الجارية في مجال العلوم الإنسانية، فإن معظم الباحثين لا يأخذون القيمة المنتجة والفعالة لتاريخ الأفكار ومفاهيمه، ولم يفتتح بعد في عالمنا العربي النقاش المثمر حول خلافات المنهج والمضمون بين تاريخ الأفكار التقليدي وتاريخ أنظمة الفكر، بإستثناء المحاولات الجادة التي بذلها محمد أركون من أجل تطبيق المنهجيات العلمية الحديثة علي التراث العربي الإسلامي.

(4) و(5) و(6)...... (ومابعدها)
استحالة الحديث عن هوية عمياء تقوم في غياب quot; الآخر quot; أو خارج quot; العصر quot;، فليس الآخر هو الذي يقابل quot; الذات quot; ويعارضها، بل انه قائم فيها. وإذا كانت الذات في بعد دائم عن نفسها (حتي تستطيع ان تفهم ذاتها) فليس quot; الآخر quot; إلا هذا الابتعاد.

[email protected]