يسرد quot; إيهاب حسن quot; في كتابه: quot; التحول ما بعد الحداثي: محاولات فى نظرية وثقافة ما بعد الحداثة quot;، مجموعة من المشكلات التصورية، منها: quot; ان لفظ quot; ما بعد الحداثةquot; يتضمن فكرة quot;الحداثةquot;، وهى الفكرة التى يقصد تجاوزها أو نقضها، أى أن اللفظ ذاته ينطوى على خصم له. كما أن لفظ quot;ما بعد الحداثةquot; يشير الى التوالى الزمني، ويوحي بالتأخر الزمني في الوقت نفسه. ويتساءل حسن: أهناك تسمية أفضل من عصر quot;ما بعد الحداثةquot;: أنسميه مثلاً، العصر الذري، أو عصر الفضاء أو عصر التليفزيون، أو العصر السيموطيقي أو عصر التفكيك، أم نسميه quot;عصر استحالة التحديدquot;؟.
الشئ نفسه ينطبق علي ما بعد الحداثة السياسية، أو بالأحري عصر quot; ما بعد الدولة quot;، وهو عصر يختلف عن عصر الحداثة الذي استمر أكثر من ثلاثة قرون، وشهد ميلاد مفهوم الدولة الحديث عام 1648، إذ أنه يرتكز علي دوائر ومستويات أوسع من حدود وقدرات الدولة ذات السيادةrlm;، بالنسبة إلي بعض الأمورrlm;، وأضيق من هذه الحدود والقدرات في أمور أخريrlm;، أو قل إن دولة quot; مابعد ndash; الدولة quot; أضحت اليوم أصغر كثيرا من أن تقدر علي الأشياء الكبيرةrlm;,rlm; وأكبر كثيرا من أن تقدر علي الأشياء الصغيرةrlm;.
فقد أدي التحول الحاصل في بنية الاقتصاد العالمي إلى تحول جوهري في دور laquo;الدولةraquo; المتعارف عليه، إذ أن انفلات رأس المال ماديًا وأيديولوجيًا من قاعدته القومية، أفرز مؤسسات اقتصادية وحقوقية ما فوق قومية تخدم مصالح رأس المال (المالي) الدولي.
وأصبحت هناك نظريتان لدولة ما بعد الدولة، يتم تداولهما في مراكز الأبحاث في العالم اليوم، وهما علي النقيض من بعضهما البعض: النظرية الأولي تعرف بquot; الدولة الرخوة quot; ndash; The Soft State، وقد ظهر هذا المصطلح أول مرة في نهاية الستينيات مع عالم الاقتصاد السويدي الشهير quot; جونار ميردال quot; الحائز علي جائزة نوبل فى الاقتصاد لعام ١٩٧٤، وأختفي لأربعة عقود ثم عاد من جديد في الألفية الثالثة وكأنه نهض كالأرواح المستحضرة.
وفي مؤلفه الضخم: quot; الدراما الآسيوية ndash; بحث فى فقر الأمم quot; عام 1968، أكد ميردال ان الدولة الرخوة هي سر البلاء الأعظم، والسبب الرئيسي في استمرار الفقر والتخلف. فهي دولة تصدر القوانين ولا تطبقها، ليس فقط لما فيها من ثغرات، ولكن لأنه لا يوجد في الدولة الرخوة من يحترم القانون، الكبار لا يبالون به لأن لديهم من المال والسلطة ما يحميهم منه، والصغار يتلقون الرشاوي لغض الطرف عن القانون واللوائح والروتين، وفي هذه الدولة يباع كل شئ: البشر والشجر والحجر، بدءا من الأعضاء البشرية كقطع غيار آدمية إلي الرخص والتصاريح وأحكام القضاء، فرخاوة الدولة تشجع على الفساد، وانتشار الفساد يزيد من رخاوة الدولة.

النظرية الثانية، تقف علي النقيض من مفهوم quot; الدولة الرخوة quot;، وتري أن العولمة الاقتصادية لن تؤدي إلى رخاوة الدولة أو انحلالها واضمحلالها، وإن كانت تعيش حالة عامة من التراجع والانحسار، وإنما ستبرز الدولة وأهميتها من جديد، باعتبارها ضرورة للطبقات المسيطرة (لقمع) أولئك الذين يسوء وضعهم بإستمرار فيتمردون على النظام الدولي الجديد في الداخل أو الخارج. وقد كان تزايد أهمية الدور القمعي الداخلي والخارجي للدولة واضحًا في ضرب الاحتجاجات المناهضة للعولمة في واشنطن وسياتل وغيرهما، وهو ما سيتكرر وبأشكال أكثر فجاجة في المستقبل.
وحسب فيلب مورو ديفارج في كتابه quot; العولمة quot;: laquo;فإذا لم يعد بالإمكان، سياسيًا، وضع حد للضغط الفوضوي الناجم عن الأسواق المتكاملة، فإنه لابد من مكافحة النتائج بأساليب قمعية، الأمر الذي يعني أن الدولة المتسلطة ستغدو الرد المناسب على عجز laquo;السيادةraquo; عن التحكم في الاقتصادraquo;. من هنا فإن الدولة ستلجأ إلي أساليب قمعية لتقييد الحريات، مؤكدة صفتها laquo;السلطويةraquo; كدولة، من خلال ممارسة دورها الجديد.
ما يعني، أن الدولة في ظل laquo;العولمةraquo; لن تنحل أو تضمحل، وإنما ستتحول من كونها دولة ديموقراطية إلي دولة تسلطية (دكتاتورية)، خاصة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية وتزايد الاحتجاجات والاضطرابات، و ارتفاع نسب البطالة وتزايد معدلات الفقر والركود الاقتصادي.
يؤيد هذه النظرية إلي حد ما، أن الأزمة المالية العالمية منذ العام 2008، تطرح العديد من التساؤلات حول مستقبل النظام الاقتصادي العالمي، سواء فيما يتعلق بمستقبل الرأسمالية واقتصاد السوق وضرورة تدخل الدولة، وهو ما أدى إلى تصاعد الأصوات الداعية لعودة quot; الدولة الحارسة quot; مرة أخرى لضبط السوق، وظهور مصطلح جديد هو quot; الرأسمالية المراقبة quot;، وهذا المصطلح الجديد يطرح بدوره تصورين ل quot; دولة ما بعد الدولة quot;، الأول منهما، هو: quot; الدولة الشمولية quot; التي تلغي القطاع الخاص تماماً، والثاني هو: quot; دولة الحد الأدنى quot; التي تلغي تدخل الدولة تماماً.
هذه السيولة والجيشان واللا حسم (حسب دريدا) هي التي جعلت مصطلح quot; استحالة التحديد quot; الذي صكه quot; ايهاب حسن quot; عام 1987 يتصدر المشهد (ما بعد) الحداثي، وما بعده أيضا.
[email protected]