الحسين الزاوي

يحلم الشباب العربي الثائر بأشياء كثيرة، ويطمح إلى أن تؤدي الثورات العربية خاصة في تونس ومصر إلى إعادة بناء الدولة العربية المعاصرة، وفق أسس وضوابط جديدة تحدث قطيعة مع الممارسات التسلطية والقمعية التي طبعت ممارساتها طيلة عقود من الزمن، الأمر الذي جعلها تحتل المراتب الأولى من بين دول العالم التي لا تحترم حقوق مواطنيها . ولن نبالغ كثيراً إذا قلنا إن حياة الإنسان العربي ومصالحه الحيوية كانت آخر شيء تفكر فيه الأنظمة العربية التي قررت شعوبها الثورة عليها . غير أنه ورغم الحماس والتفاؤل الكبيرين اللذين ولّدهما الربيع العربي، إلا أن هناك ظلالاً قاتمة من الشك مازالت تحيط بمشاريع الثورات المنتصرة، لأن إسقاط رئيس لا يعني بالضرورة القطيعة النهائية مع نظامه ومؤسساته، كما أن إسقاط نظام بأكمله لا يفضي حتماً إلى ولادة نظام جديد بشكل كامل .

ذلك أن الدراسات الأكاديمية المتخصصة توضح أن القطيعة، حتى في مجال العلوم والمعرفة لا تعني البداية من الصفر مع نظام أو نسق علمي جديد، بل أن هناك عناصر بارزة من النظام السابق تظل موجودة بنسب مختلفة في النظام أو النسق المرتقب الذي يكون في طور التشكُّل . والشيء نفسه يحدث بالنسبة للأنساق والأنظمة السياسية فالقديم يمثل مكوِّناً رئيسياً من مكونات النظام الجديد، وتزداد خطورة عناصر النظام القديم في سياق تفاعله مع مكونات الجديد، وتحديداً عندما يكون حاملاً لخلايا ldquo;سرطانيةrdquo; لها قدرة كبيرة على التكاثر والنمو السريع، الأمر الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى القضاء على الخلايا السليمة للنظام الجديد، وإلى عودة قوية للنظام السابق بقوة وشراسة ومناعة أكبر مما كانت لدى هذا النظام قبل سقوطه .

لا يتعلق الأمر هنا بمحاولة زرع بذور الشك في نفوس فئات واسعة من الشعب العربي الذي استبشر خيراً بهذه الثورات المباركة، ولكن من واجب النخب السياسية والفكرية الساهرة على قيادة مرحلة التحول الديمقراطي الجديد، التحلي بكثير من الحيطة والحذر، حتى لا يجد الشعب العربي نفسه أمام انتكاسات خطيرة قد تؤدي إلى القضاء على المشروع الحضاري العربي برمته . وذلك ما يفرض على هذه النخب العمل على تطوير الممارسة التعددية والديمقراطية، ومحاولة إبداع أشكال جديدة من الديمقراطية والمشاركة الجماهيرية في السلطة، لأن الصيغ الديمقراطية التقليدية التي أبدعتها الدولة الغربية الحديثة أبانت عن محدوديتها، وتحولت في أحيان كثيرة إلى ديكور وكرنفال سياسي يعيد إنتاج وتشكيل سياسات عقيمة ولكن بوجوه جديدة، فالتعددية الحزبية لا تعني بالضرورة الديمقراطية، كما أن حرية التعبير ليست مرادفة للديمقراطية، فالكثير من الأنظمة الغربية تطبِّق بشكل واضح شعار ldquo;قولوا ما تريدون ونحن نفعل ما نشاءrdquo;، والجميع يعرف أن الحكومات الغربية تنفِّذ سياسات يعلم الجميع أنها مناقضة لتوجهات وقناعات قسم كبير من مواطنيها . وعليه فإن الفيلسوف الفرنسي الراحل جون بول سارتر كان محقاً حينما أشار إلى أن هذا النوع من الممارسة السياسية فيه الكثير من التزييف والتضليل، لأن السياسات نفسها تعود في كل مرة ولكن بعناوين جديدة؛ وبالتالي فليس مسموحاً لأي كان أن يصل إلى السلطة إذا لم يلتزم بالمحافظة على التوازنات المجتمعية والسياسية السائدة .

وذلك ما يؤدي إلى خلق نوع من الانتقاء والاصطفاء الإيديولوجي داخل اللعبة السياسية، يجعل من المستحيل على من لا يلتزم بقواعدها أن يصل إلى السلطة، وعندما تصل أكثر الشخصيات السياسية مصداقية إلى سدة الحكم، فإنها لا تفعل سوى الالتزام بتطبيق ما هو متاح من برامج سياسية واقتصادية أو اجتماعية متوافق عليها .فمسألة حكم الشعب نفسه بنفسه، وشعارات العقد الاجتماعي وغيرها من المبادئ، ما زالت تمثل قيماً سياسية يصعب حتى الآن تجسيدها على أرض الواقع، فالديمقراطية المباشرة كثيراً ما تؤدي إلى الفوضى والغوغائية، وهي في كل الأحوال مضطرَّة إلى التحول في إحدى مراحلها وضمن مستويات معينة، إلى ديمقراطية غير مباشرة حتى تستطيع مباشرة أعمالها بشكل أكثر انسجاما وفعالية . أما الديمقراطية غير المباشرة التي تتم عن طريق المؤسسات المنتخبة، فتؤدي إلى عدم الالتزام ببنود التفويض الممنوح لهذه المؤسسات، التي كثيراً ما تتحول إلى جسم سياسي متسلِّط يمثل مصالح أعضائه أكثر مما يسهر على تجسيد مشاريع من انتخبوا أفراد هذه المؤسسات؛ ويمكننا أن نتساءل هنا على سبيل المثال لا الحصر، هل يمثل الكونغرس الأمريكي منتخبيه من الشعب الأمريكي أم يمثل دولة ldquo;إسرائيلrdquo;؟

إن المؤشرات الحالية التي تصاحب تحولات الربيع العربي تؤكد حتى الآن أن المشروعية الديمقراطية، تواجه في مسيرتها عوائق كثيرة، ولن تكون كافية في المستقبل المنظور على تحقيق الاستقرار المرجو، فخلف المطالب الديمقراطية هناك صراع خطير ترتسم ملامحه في الأفق، يرتبط بمسألة المرجعيات المؤسِّسة لهذه الممارسة الديمقراطية المرتقبة والموعودة . وهو صراع خطير ويمكنه أن يُفرغ الممارسة الديمقراطية من محتواها، فهناك أطراف كثيرة لا ترى في الديمقراطية سوى وسيلة من أجل تحقيق غاياتها، ولا تؤمن بالقيم الحقيقية التي ترمز إليها هذه الديمقراطية، لأن من يؤمن بفضائلها وشمائلها السياسية لا يمكنه أن يدافع عن مشروع مجتمع مغاير لها . ومن الخطأ بالتالي أن يتم اختزال الديمقراطية إلى مجرد آليات انتخابية تسمح بالوصول إلى السلطة، وتنفيذ أجندات خاصة من شأنها أن تعيد إنتاج آليات التسلط والإقصاء على مستوى ممارسة السلطة .لاسيما في هذه الفترة التي يزداد فيها الاصطفاف حول مشاريع مجتمعية منغلقة لا تؤمن بنسبية القناعات السياسية، وترفض الاعتراف بحق الآخر بأن يكون شريكاً كاملاً في رسم ملامح مستقبل الوطن، متناسين أن الهدف الأساسي من وراء وجود نظام ديمقراطي هو التنافس من أجل تنمية الدولة وتحقيق سعادة ورفاهية المواطن وليس من أجل تحقيق انتصار تيار أو فئة أو طائفة على بقية الأطراف، فالشراكة في إدارة الدولة والمجتمع هي إحدى الفضائل الكبرى للمشروع الديمقراطي ومن دونها تتحول الديمقراطية برمتها، إلى مجرد جسر تنتهي صلاحيته بمجرد الوصول إلى السلطة .