عبدالله بن بجاد العتيبي

ينشر هذا المقال في يوم الاثنين 19 ديسمبر وهو اليوم نفسه الذي سيلتئم فيه شمل قادة دول مجلس التعاون الخليجي بالرياض في دورته الثانية والثلاثين، ومن السهل معرفة أن عام 2011 لم يكن عاماً عادياً لا بالنسبة للمنطقة والعالم ولا بالنسبة للعالم العربي، وبالتالي لدول مجلس التعاون الخليجي.

الوقائع والأحداث تخبر بأنّ مجلس التعاون الخليجي قد وضع نفسه في مقدّمة الصفوف فيما يجري، فتدخّل في ليبيا، وقدّم مبادرةً لليمن تمثّل خريطة الطريق التي يسير على قضبانها اليوم، وها هو يقود الموقف العربي والمبادرة العربية تجاه سوريا من خلال الجامعة العربية، ويهدّد بتصعيدها لمجلس الأمن في مهلة لا تتجاوز الأربعاء القادم، وقد أصبحت تتطلّع إليه بعض دول الاحتجاجات كمصر وتونس في محاولاتٍ لاستقطاب استثماراته لإنعاش اقتصاداتها التي اهتزّت كثيراً بفعل الاحتجاجات والانتفاضات.

عاش المجلس منذ إنشائه تحدّياتٍ تزيد وتنقص، تشتد خطورتها حيناً وتقلّ حيناً، ولكنّه حاول دائماً أن يصبغ مواقفه وقراراته بصبغة الهدوء والعقلانية وعدم الاندفاع. وكانت له أدوار كبرى في الصراعات الدولية والإقليمية، دولياً، كما جرى في نهايات الحرب الباردة وتحديداً في أفغانستان التي كان للمجلس دور كبير في إضعاف الدبّ السوفييتي وأثر ظاهر في ترجيح الكفّة ضدّه، وإقليمياً، كما جرى في مواجهة الخطر الذي مثّلته الثورة الإسلامية في إيران وشعارها سيء الذكر quot;تصدير الثورةquot;، وكما جرى في مواجهة الغزو العراقي للكويت. أمّا دوره الاقتصادي فهو يتخذ مكانةً مؤثرةً في العالم خاصةً فيما يتعلّق بالنفط الذي يعدّ شريان وعصب الحضارة المادية الحديثة.

كان هذا في الجانب الإيجابي لبعض ما مضى، ولكنّ استحضار بعض الجوانب السلبية مهم، وخاصةً تلك التي تتعلق بطبيعة العلاقة الرابطة بين دول المجلس والتي لم يحدث لها تطوير حقيقي، وكذلك بحجم المنجز من المشاريع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية المشتركة، وكذلك حجم ما توفّره للمواطن الخليجي من أملٍ وطموحٍ وأمنٍ واستقرارٍ، فلم يزل المواطن الخليجي يفتقد للكثير مما يمكن اعتباره تقدّماً فاعلاً في تلك المشاريع يجد أثره على حياته.

بعيداً عن حديث الإيجابيات والسلبيات فإن المجلس يواجه هذا العام واحداً من أخطر التحدّيات التي مرّت عليه طوال تاريخه، وهو ما يسمّى بالربيع العربي الذي طرأ على خمس دول عربيةٍ حتى الآن نجح في ثلاثٍ منها، هي تونس ومصر وليبيا، واثنتان أخريان، حيث سوريا التي تترقب تحت أزيز الرصاص وقوّة القتل الغاشمة التي تحصد شعبها، واليمن التي تتأرجح بين تعلّق نخبها العاقلة وأحزابها الرسمية بالمبادرة الخليجية وبين تفشّي المزايدين في الشارع.

ولكن اين يكمن الخطر تحديداً؟ إنّ الخطر القادم على دول الخليج يتعلّق بعدّة أمورٍ من أهمّها ثلاثة: الانسحاب الأميركي من العراق، واحتمال تشكّل محورٍ أصوليٍ معادٍ في دول الاحتجاجات العربية، والأهمّ أنّها ستصبح محاطةً بدولٍ إما ستصبح فاشلةً وإما مهدّدةٍ بالفشل، من سوريا في الشمال إلى اليمن في الجنوب إلى مصر في الغرب. الانسحاب الأميركي من العراق يحتوي على عددٍ من المخاطر، أوّلها ما ردّده الكثيرون لسنواتٍ من أنّه لا يعدو أنّ يكون الخطوة الأخيرة في تسليم العراق على طبقٍ من ذهبٍ لإيران وحلفائها العراقيين الذين صنعتهم على عينها سنين عدداً، وهم يدينون لها بالولاء المطلق رغباً ورهباً، جزء من هذا الخطر يتمثّل في تحويل العراق لقاعدة لمناكفة دول الخليج وللعمليات القذرة ضدّها للتعويض عن اضطراب سوريا والاحتمالات القوية لسقوط النظام الحليف لها هناك ويمكن أخذ قضية ميناء مبارك الكبير في الكويت كمثالٍ، وجزء أهمّ يتمثل في أنّ اقتصاد العراق المنتعش والمتصاعد نحو الأفضل سيكفل لإيران أمرين: إنعاش اقتصادها الذي أنهكته العقوبات الدولية المتزايدة والبالغة التأثير، واستخدامه في دعم حلفائها بالمنطقة والحفاظ عليهم إن في لبنان حيث quot;حزب اللهquot;، الذي سيهتزّ كثيراً في حال سقوط نظام الأسد في سوريا، وإنْ في فلسطين حيث بدأت حركة quot;حماسquot; تحاول النأي بنفسها عن إيران لصالح المحور quot;الإخوانيquot; الجديد وخاصةً في مصر، وإنْ في اليمن حيث quot;الحوثيينquot; الذين بدأوا يستفيدون من حالة الفوضى والنزاع السياسي هناك ليحقّقوا مكاسب على الأرض، وما معارك quot;دمّاجquot; في محافظة صعدة إلا مجرد مثالٍ.

الخطر الثاني هو احتمال قيام محورٍ أصوليٍ في الدول العربية المحتجّة معادٍ لدول الخليج وهو احتمال قائم -باستثناء قطر بالطبع وإنْ إلى حين- فتاريخ وخطاب الجماعات الأصولية كان على الدوام معادياً للخليج في خطّه العام، وهو تاريخ وخطاب لم يتغيّر منه شيء وإنْ حاول البعض إلقاء بعض المساحيق عليه حالياً لتشتيت الصورة، وما يشكل بؤرة الخطر فيه هو أنّ هذه الجماعات وصلت أو هي في وضع الوصول لتصبح الممثل السياسي لتلك البلدان، وربما يستهين بعض المثقفين المتحمّسين للثورات والشعارات من مثل هذا الطرح غير أنّ كثيراً منهم كان يسخر في بداية العام مما كان يسمّيه quot;فزّاعة الإسلاميينquot;، ثم عاد في نهايته لمّا رأى ما يجري على الأرض إلى وعيه، فأدرك أنّ الشعارات تتبخّر تحت شمس الآيديولوجيا، وأن كثيراً من الأحلام تتكسر حين تصطدم بأرض الواقع وذلك في مقالاتٍ منشورةٍ ولقاءاتٍ فضائية موثقة.

أمّا الخطر الثالث وهو الخطر الأهمّ، فهو أن تكون دول الخليج محاطةً بدولٍ فاشلةٍ أو دولٍ مهدّدةٍ بالفشل في استقرارها السياسي وفي عافيتها الاقتصادية وفي سلمها الاجتماعي، إن ذلك يعني تهديداً مباشراً لبناء التنمية وتطويرها في دول المجلس، وتهديداً لاستقرارها السياسي والاجتماعي وسلمها الأهلي، وعبئاً كبيراً على اقتصادياتها.

كمثالٍ صغيرٍ على تهديدٍ حقيقيٍ بالفشل لبعض تلك الدول يأتي عامل الجماهير المحتجّة والغاضبة، حيث إنّه في لحظات الفوضى تروج سوق الغوغاء والمزايدين وتعاني سوق العقل من كسادٍ عبّرت عنه بعض النخب والأحزاب، ويصبح التفكير في السياسة منطلقاً من قوّة الحناجر وضخامة الحشد، ويتفشّى الخوف، وتسيطر المؤامرة على الكثيرين فيتفنّنون في تقليبها على كافة الأوجه ما كبر منها وما صغر. وحين تنظر قلة واعية في تلك البلدان للمستقبل عبر أولويات البناء والتنمية واستعادة الاستقرار والأمن وترميم هيبة الدولة وقدرتها على ضبط البلاد وخلق سلطةٍ فعليةٍ، تسيطر على أخرى إحن الماضي وذحوله عبر أولويات الانتقام والتشفّي وتصفية الحسابات وكذلك عبر التركيز على المصالح الصغيرة إن فئويةٍ وإن طائفيةٍ وإن حزبيةٍ.

أحسب أنّ هذه بعض المخاطر الحقيقية الجديرة من مجلس التعاون بالعناية والدراسة للمساعدة في رسم الاستراتيجيات الفاعلة والمؤثرة لتجنب أضرارها والحذر من عواقبها، مع الاستمرار في الإصلاح المتدرّج والتطوير الرشيد والتنمية الناجحة في الداخل.