رضوان السيد

قال الأمير سعود الفيصل إنّ إيران أرسلت وزير مخابراتها إلى السعودية، إظهاراً لإرادة التهدئة والتفاوض. وقد يكون ما تقوله إيران صحيحاً لجهة النوايا، إنما لا تبدو آثاره حتى الآن في أعمال أتباع إيران وأنصارها في المنطقة العربية. فالرئيس الأسد الذي يتمتع بدعم إيران ورضا ولاية الفقيهين الأكبر والأصغر عنه، لا يزال يقتل عَلَناً المئات مهملاً نصائح الإيرانيين العلنية له بوقف العنف والاتجاه للإصلاح. وعندما قبل البروتوكول العربي أخيراً قيل علناً إنّ ذلك كان بضغطٍ من روسيا وليس من إيران. ويمضي هؤلاء موكّدين أنّ quot;البروتوكولquot; لن يطبّق، ليس بسبب شراسة النظام السوري وغرامه بقتل الناس فقط؛ ولكن أيضاً لأنّ الإيرانيين لا يقبلون حلاً يأتي من عند غيرهم ولو كان روسيا الحبيبة! وأمين عام quot;حزب اللهquot; يقول ويكرّر إنه يسيطر بسلاحه على كلّ شيء، ومن لم تكفه التجربة الأولى، فليجرب مرةً أُخرى! والمالكي، رئيس الوزراء العراقي، ارتكب خطأً هو من الهول والغرابة، بحيث يفوق خطأَه- وهو من quot;حزب الدعوةquot; المتشدد- بدخوله إلى العراق هو والأكراد والهاشمي وأمثالهم على ظهر الدبابة الأميركية. فبمجرد خروج الأميركيين أقدم على هدْم التركيبة التي بنوها له مع الإيرانيون لتمكينه هو (وليس المجلس الأعلى أو علاّوي) من حكم العراق! والإيرانيون أنفسهم، قالوا عن المبادرة العربية حول سوريا إنها مضحكة، ثم قالوا عن بيان القمة الخليجية الذي يتهمهم بالاستمرار في التدخل في الشؤون الداخلية لدول المجلس إنه ظالمٌ وغير صحيح!

لقد اشتهر الإيرانيون -بخلاف الحكام العرب المُغادرين- بالتفرقة بين الدعاية الضخمة الموجَّهة للخصوم والأصدقاء، والسياسات الحقيقية التي يتبعونها تجاه الخصوم والأصدقاء أيضاً. ويذكر المراقبون نماذج على ذلك في قبول إيران للقرار 598 عام 1988 بشأن وقف النار بينها وبين العراق. فقد قال الخميني وقتها إنّ هذا القرار هو أَمَرُّ عليه من العلقم، لكنه قبلهُ ونفذه. وعندما هجم الأميركيون على المشرق الإسلامي عام 2001 كانت الدعاية الإيرانية ضدهم، ومن ضمنها التهديد بالحرب الماحقة، لكنهم في الواقع شاركوهم في أفغانستان وفي العراق، وتمددوا بمعرفتهم في عدة دولٍ ومجتمعاتٍ عربية وإسلامية. وعندما كان المسؤولون في الجمهورية الإسلامية يُسألون عن سرِّ هذا الانفصام بين الدعاية والعمل منذ عام 2001 وحتى عام 2009، كانوا يجيبون بما أجاب به الإمام الخميني السيد الخامنئي الذي كان رئيساً للجمهورية واختلف مع حكومة مير حسين موسوي باسم الدين، فقال له الخميني: quot;إنّ ما تقوم به الحكومة هو من مصلحة الدولة، وإذا تعارضت مصلحة الدولة مع مصلحة الدين؛ فإنّ مصلحة الدولة تتقدم، لأنّ الدين باقٍ بينما الدولة تتهدَّد إذا اختصمت مع الدين، وإذا تهددت الدولة كان ذلك وبالاً على الإسلام نفسِه، وعلى أيّ حال فإنّ الدين منتصرٌ في النهاية على يد إمام العصر والزمان، فلا تختلفْ مع الدولةquot;!


والذي لا شكَّ فيه أنّ هذه العقلية البراجماتية خالطها الكثير من سوء التقدير نتيجة الاصطفافات في السنوات الأخيرة، بحيث ما عاد يمكن للذين يحتكمون في فهم تصرفات مسؤولي الجمهورية الإسلامية إلى العقلانية الاجتهادية للملالي أن يعتمدوا عليها في توقُّع ما سيقوم به مسؤولو إيران أو لا يقومون. ويبدو ذلك فيما فعلوه في العراق ولبنان على وجه الخصوص. ففي العراق سيطر الإيرانيون على الحكومات المتعاقبة، وبخاصةٍ أيام الجعفري والمالكي. وإذا لم يكن ممكناً اعتبارهم مسوؤلين عن الفساد الفظيع، لأنّ العراقيين جميعاً لم يقصِّروا في سرقة أنفُسِهِمْ كأنما المال العامُّ غنيمةٌ بارزةٌ تؤخذ اليوم قبل الغد، فلا شكَّ أنهم يتحملون إلى جانب الأميركيين، قسطاً كبيراً من المسؤولية عن الفوضى وانعدام الأمن ونشوب النزاعات الطائفية. وفي حدود عام 2009 وعندما كان العراقيون يتفاوضون مع الأميركيين بشأن الانسحاب وتنظيمه، كان الموقف الإيراني شديد التناقُض بين يومٍ ويوم، بحيث تساءل كثيرون منا: ماذا يريد الإيرانيون من العراق، هل يريدونه أن يبقى ضعيفاً ومنقسماً، أم يريدونه خالصاً للفريق الشيعي الموالي لهم؟! وما اختلف سلوكهم بلبنان عنه بالعراق. فقد همَّ quot;حزب اللهquot; باقتحام السراي الحكومي عام 2007 لإخراج السنيورة منه، ثم قيل إنّ خامنئي تدخَّل بطلبٍ من الملك عبد الله لمنْع ذلك خشية الفتنة الشيعية السنية التي كانت إيران غارقةً فيها بالعراق. بيد أنّ ما لم يحصل عام 2007 حصل في 7 مايو عام 2008 وعلى نحوٍ أفظع وأكثر هَولاً؛ إذ قام quot;حزب اللهquot; باحتلال بيروت بالسلاح. وفي عام 2010 قام الحزب، يؤازره النظام السوري، بإسقاط حكومة سعد الحريري، وها هو يربض حتى اليوم على الدولة اللبنانية والنظام اللبناني بالعديد والسلاح.
وجاءت انتخابات رئاسة الجمهورية بإيران في صيف عام 2009، لتكشف أنّ الاختلال الحاصل والمتفاقم في العلاقة بين إيران والعرب، الشيعة والسنة (بسياساتٍ إيرانيةٍ واضحة)، لا يقتصر على السياسة الخارجية؛ بل إنّ الاختلال أصله داخلي. إذ ما كان النظام مضطراً لتزوير الانتخابات (كما فعل مبارك بمصر) من أجل تفويز نجاد. كما أنه ما كان مضطراً لتعذيب المعارضين لنجاد وقتْلهم لقيامهم ببعض التظاهُرات السلمية. ثم إنّ المحافظين من حول خامنئي ما كانوا مضطرين للانقسام إلى هذا الحدّ في عام 2011 بشأن نجاد من جهة، وسليماني من جهةٍ ثانية؛ بحيث وصل الصراع إلى حدود الاقتتال فيما بينهم، وليس بينهم وبين المعارضين الإصلاحيين!

لقد بدا الآن كأنما كانت خطةُ الإيرانيين منذ العام 2010 أن يرثوا الأميركيين في كلّ المنطقة التي تمددوا فيها بموافقتهم خلال السنوات العشر الماضية. وما ظهرت معارضةٌ من الأميركيين لذلك، بدليل أنهم عقدوا معهم صفةً لإعادة المالكي إلى رئاسة الحكومة العراقية بعد الانتخابات التي خسرها في مواجهة علاّوي. لكنّ الأميركيين كانوا قد نصبوا لهم كمائن وخوازيق في كلّ مكان، وتركوهم يقلّعون شوكهم بأظافرهم، كما يقال. إذ قبل خروج الأميركيين من العراق تغير الوضْع الاستراتيجي بالمنطقة، وهذه المرة ليس بمبادرةٍ من الأميركيين أو الإيرانيين أو الأتراك أو الإسرائيليين. وأنا أُعدّد هذه الأطراف لأنها كانت هي المتحركة والفاعلة بالمنطقة العربية خلال العقد المنقضي. تغيَّر الوضع الاستراتيجي بالمنطقة العربية نتيجة الثورات الشعبية العربية التي أزاحت أربعة رؤساء حتى الآن. كان الأميركيون يعتمدون على هؤلاء الرؤساء، وكانت إيران تعتمد على غياب الجمهور العربي وتتحدث وتفعل من خلال تنظيماتها باسمه. وكان الأميركيون والأوروبيون -رغم جَزَعهم- أذكياء، فبدلاً من إعانة الرؤساء المتداعين، أَقبلوا على تأييد ثورات الشعوب ودعْمها حيث أمكن ذلك. أمّا الإيرانيون فقد بشّروا في دعايتهم العرب بقيام جمهورياتٍ إسلاميةٍ مثل الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وبلغ من اقتناع الجنرال سليماني، المسؤول عن فيلق القدس وعن التنظيمات الإيرانية والموالية لإيران بالمنطقة، أن أَنذر خصومه بالداخل الإيراني، أنه إذا حصل له شيء، فإنّ المصريين هم من سينتقمون له، على أساس أنه هو الذي صنع الثورة المصرية! وكان ذلك كُلُّه أَوهاماً، لأنّ وسائل إعلام إيران والمالكي وquot;حزب اللهquot; الآن تتحدث كلّها ضدَّ الثورات العربية باعتبارها مؤامرة أميركية وصهيونية على تيارات الأنظمة الممانعة والمقاوِمة، وبينها نظام الأسد ونظام المالكي وquot;حزب اللهquot;!

على مشارف خروج الأميركيين من العراق، وحديثهم عن انسحاباتٍ أُخرى، أيقظ الإيرانيون من جديد جماعاتهم وتنظيماتهم بالعراق ولبنان والبحرين واليمن والكويت... بيد أنّ التأثير ما كان كما أرادوا. فحركات الإسلام السياسي السنية (بما في ذلك حماس والجهاد الإسلامي) تحولت مع الثورات العربية إلى عنصر فاعل وقوي في السلطات الجديدة، وما عادت محتاجةً للدعم الإيراني، ولا عاد الجمهور يقبل منها العمل عند إيران أو معها. والسوريون ثاروا على نظامهم ولايزالون، وقد تصاعد عداؤهم لـquot;حزب اللهquot; والمالكي لإعلاناتهما المتكررة بشأن دعم الأسد. وهناك يقظةٌ سنيةٌ كبيرةٌ ما عادت تقبل التقسيم ولا الانقسام ولا السير وراء دعواتهما بحجة الممانعة والمقاومة. وسياسات الإيرانيين الماضية والحاضرة تهدِّد الجماعات الشيعية العربية بالانكشاف باعتبارها تقدم المصلحة الإيرانية على حساب مصالح بلدانها دولاً ووحداتٍ اجتماعية. وهكذا يلجأ quot;حزب اللهquot; وبشار الأسد للدخول في أوهام quot;تحالفات الأقلياتquot; رجاء تأجيل المدة، وتأخير الأَجَل. فهل تكون زيارة وزير الاستخبارات الإيراني للسعودية quot;بشيراًquot; بتغيير إيراني تجاه العرب وتجاه أهل السنة؟ قد يكون ذلك. بيد أنّ الظواهر على الأرض حتى الآن لا تدلُّ عليه: {والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون}.