توفيق المديني

لم تكن الثورة الشعبية التي أطاحت حكم بن علي البوليسي مُؤطرةً من قبل الأحزاب والحركات الأيديولوجية المعروفة، بل إن القوة التي لعبت فيها دور المحرك الرئيس هي الحركة الشبابية التي وظفت ثورة وسائل الاتصالات الحديثة، في عملية التعبئة و الحشد للمظاهرات التي عمت معظم المدن التونسية، لا سيما طلاب الجامعات و الخريجين الجامعيين العاطلين عن العمل، بسبب البطالة الضاغطة التي يعاني منها الآلاف من الشباب ذوي المؤهلات العلمية، وتعاظم الإحساس بالظلم الاجتماعي الناجم من حالة الفساد التي عرفتها تونس واستئثار حفنة قليلة من المستفيدين من النظام السابق بجزء هام من الاقتصاد الوطني في قطاعات متنوّعة مثل البنوك والصناعة والعقارات.
في سيرورة النضال تحولت هذه الانتفاضةالاحتجاجية إلى ثورة شعبية وشبابية، هي ثورة مدنية لا عسكرية ولا دينية، حتى عندما حاولت بعض الجهات الركوب على الثورة أزاحتها الجماهير(حالة الدكتور المنصف المرزوقي). وكانت الشعارات التي رفعتها هذه الثورة مبنية على مطالب مشروعة واتسمت بأكبر قدر من السهولة والراديكالية، حيث تركّزت حول القطيعة مع رموز النظام السابق، الذين كانوا يقبعون في حكومة الوحدة الوطنية التي يترأسها السيد محمد العنوشي.
لكن السؤال الذي يطرحه المحللون في تونس والعالم العربي، وحتى في الغرب، هل إن هذه الثورة الشعبية في تونس، تملك مشروعاً سياسيا ومجتمعياً لإقامة نظام ديمقراطي جديد في تونس؟ ومع من؟
بداية لابد من التأكيد على أن هذه الثورة الشعبية التي كان البعد الاجتماعي هو محركها الرئيس، أبصرت النور من الريف التونسي، وتحديداً من المحافظات المحرومة والمهمشة تاريخيا التي تقع في الوسط الغربي (سيدي بوزيد والقصرين) باعتبارها كانت تمثل تاريخيا مركز القبائل العربية (الهمامة والفراشيش وماجر)، التي أطاحت البربر في القرن الحادي عشر، وفجرت ثورة شعبية قادها علي بن غذاهم ضد مخزن الحاكم quot;البايquot;، في عام،1864.
هذا الأمر مفهوم، لأن النخبة السياسية - الإدارية المسيطرة على مجموع الدولة- الحزب الواحد بقيادة الحبيب بورقيبه، والتي نقلت تونس من حكم القبائل إلى الدولة الحديثة، لم تكن نخبة ثورية بالمعنى الدقيق للكلمة، ولم تتحرر هي أيضا من منبت quot;عصبيتهاquot; الساحلية، إذ ركزت التنمية في المناطق الساحلية مثل المنستير وسوسة والمهدية، وأهملت العديد من المحافظات. إنها الخاصية التي تتميز بها تونس المنقسمة مناطقياً، والخاضعة لقانون التطور اللامتكافىء على صعيد التنمية، وعلى صعيد التوزيع غير العادل لفوائد النمو والتنمية.
بيد أن تطورالانتفاضة الشعبية وتحولها من الريف إلى المدينة، و بالتالي تحولها إلى ثورة سياسية مدنية أطاحت بحكم بن علي البوليسي، وجعل مضمونها الحقيقي في الوقت الحاضر هو الحرية و الكرامة، يعود إلى عوامل رئيسية ثلاثة :
الأول، انحياز الاتحاد العام التونسي للشغل إلى جانب الانتفاضة- باعتباره القوة الشعبية المنظمة في تونس منذ عهد الاستعمار- التي دمجت منذ ذلك الوقت العمل النقابي بالعمل السياسي الوطني، وتجاوزت بنضالاتها الشعبية الوطنية حدود نضالات الاحزاب السياسية المعارضة، وعملت إلى لعب دور الحزب المعارض للحزب الدستوري في فترة الاستقلال، خصوصاً لجهة الاضطلاع بمهام تتجاوز ما وراء المطالب النقابية إلى إعادة صهر سوسيولوجي للمجتمع .
فالاتحاد العام التونسي للشغل هو الذي يصنع الرؤساء في تونس، وهو الذي يحسم كفة صراع الأجنحة داخل النظام التونسي لمصلحة هذا الطرف أو ذاك، وهو الوحيد القادر على التصادم مع الدولة كما حدث في الانتفاضة العمالية في 26 كانون الثاني 1978، وهو الحاضن الاجتماعي لكل أطياف المعارضة التونسية من أقصى اليسار إلى الإسلاميين مرورا بالقوميين. وإذا كانت قيادته الحالية في عهد الرئيس عبد السلام جراد قد انساقت مع بن علي، فإن هياكله وقواعده لم تكن كذلك.
الثاني : قدرة نخب المجتمع المدني التونسي، العديدة و المتنوعة، والطبقات الوسطى و الفقيرة التي تم تهميشها، على النشاط السياسي،والمشاركة في الشأن العام، وإنتاج السياسة في صلب المجتمع،لا سيما أن هذه النخب متشبعة بثقافة المواطنة (المساواة في الحقوق والواجبات) وتستند إلى الموروث الاصلاحي التونسي الذي كان يتسم به quot; التونسي الفتىquot; منذ عهد خير الدين التونسي الذي كان يهدف إلى بناء دولة مدنية حديثة منذ أن أقر أول دستور عربي عصري في العالم الإسلامي سنة 1861، سمي في ذلك الوقت بدستور عهد الأمان الذي قوض سلطة الباي، وأصبحت تونس عبارة عن دولة ملكية دستورية، إذ أن مجلس الشورى الأعلى هو الذي يصدق على إجراءات الحكومة قبل تنفيذها، فضلاً عن أن السلطة الفعلية قد أصبحت في أيدي رئيس الحكومة، أو الوزير الأول حسب المصطلح الفرنسي.
الثالث:الجيش التونسي،الذي كان مهمشاً في عهد الدولة البولسية، والذي لا يتجاوز تعداده 50000عسكريا، بينما يتجاوز تعداد أجهزة الأمن 250000، فضلاً عن أن الامتيازات المالية والعقارية، والقيام بالدورات في الولايات المتحدة وفرنسا، كانت تذهب كلها إلى ضباط الأمن، الأمر الذي ولّد نقمة داخلية في المؤسسة العسكرية ضد حكم بن علي، نتاج الغبن الذي كانت تشعر به. وبعد أن فشل بن علي في خطابه الثاني الذي ألقاه مساء يوم 14 كانون ثاني 2011في تهدئة حركة الشارع، أصر في لقاء مع قائد الجيش الجنرال رشيد عمار على تعهد الجيش لدور أكثر فعالية في قمع الانتفاضة، أو أن يقوم قائد الأركان بتقديم استقالته. وقد أدّى رفض قائد الأركان مطالب بن علي، إلى أن يدرك بن علي أن لعبته قد انتهت، بعد أن انهارت قدرته على إدارة جهاز الدولة وآماله في احتواء الانتفاضة الشعبية، الأمر الذي اضطره بالتالي إلى مغادرة البلاد، بدون الإعلان الرسمي عن التخلي عن الحكم، في يوم 14 يناير/ كانون ثاني2011.
من هنا نقول أن نقطة الانطلاق الرئيسية في هذه الثورة الشعبية هي الحرية، و العمل على أساس بناء الدولة المدنية، أي الدولة الوطنية الديمقراطية، التي تستحق هذه الصفة، بوصفها تجسيداً للعقلانية والحرية. لكن الثورة في تونس بعد سقوط نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، ظل يشقها تياران :
الأول وتقوده بعض الأحزاب اليسارية التي كانت محظورة في السابق وبعض المجموعات القومية الصغيرة المتحالفة مع الاتحاد العام التونسي للشغل، حيث تمثلت استراتيجية هذا التيار في قضم الحكومة الانتقالية، والسير بهذه الثورة إلى الأمام نحو إسقاط حكومة رئيس الوزراء محمد الغنوشي الحالية أو أي حكومة تضم رموز النظام السابق، وحل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي (الحاكم سابقا) ومصادرة مقراته وأملاكه وأرصدته المالية باعتبارها من أموال الشعب (..) وحل مجلسي النواب والمستشارين (..) وتفكيك البنية السياسية للنظام السابق والإعداد لانتخاب مجلس تأسيسي في أجل لا يتجاوز سنة من أجل صياغة دستور ديمقراطي جديد ووضع منظومة قانونية جديدة لتأطير الحياة العامة تضمن الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية للشعب..
ويرفض هذا التيار الواسع الأطياف أن يكون الهدف من تمسكه ومعه الشارع التونسي بإسقاط حكومة محمد الغنوشي، هو الدفع بتونس إلى حالة من الفراغ السياسي المجهول المآلات، مشّددة على أن الخيار بين الحكومة أو العنف والفوضى، أو بين الحكومة والإسلاميين، هو خطاب لتخويف الشعب التونسي. لكن هذا التيار يخطىء عندما يدعو إلى حلّ حزب التجمع الدستوري الديمقراطي (الحاكم سابقا)، لا سيما بعد أن أقرت الحكومة المؤقتة فصل هذا الحزب عن كل مؤسسات الدولة، وصادرت ممتلكاته،لأنه في مثل هذه الحالة سيتحول إلى حزب عادي مثل باقي الأحزاب السياسية، ولأنه لا يجوز لأحزاب المعارضة التي تناضل في سبيل بناء ديمقراطية حقيقية، وعانت من سياسة الإقصاء والإلغاء في عهد الدولة البولسية، أن تمارس سياسة إلغاء وإقصاء معكوسة. فمعالجة الخطأ التاريخي لا تتم بارتكاب خطأ مماثل.
أما التيار الثاني، فهو يضم، المعارضة اليسارية المعتدلة، مثل الحزب الديمقراطي التقدمي، وحركة التجديد(الحزب الشيوعي سابقا)، ويرى أن تونس دخلت في مرحلة جديدة، تكتنفها تحديات هائلة، لجهة بناء ديمقراطية حقيقية. وهذا يتطلب من مختلف أطياف المعارضة التونسية مساعدة الشعب التونسي لتحقيق طموحاته في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية من أجل بناء نظام ديمقراطي جديد، هذا مع احترام السيادة التونسية.
ويعتقد هذا التيار أن من يسعى في الوقت الحاضر لإسقاط حكومة الوحدة الوطنية التي ستعمل خلال فترة زمنية محددة على تحقيق المطالب السياسية وفق برنامج أساسه مطلب الحرية الذي ينادي به الشعب التونسي، بحجة رفض التعاون مع التجمع الدستوري (الحزب الحاكم سابقا)، إنما يسعى إلى دفع تونس باتجاه الفوضى التي تمهد الطريق أمام العنف الذي لا يخدم مصالح البلاد وأهداف الثورة. ذلك أن التحركات الشعبية الحالية التي تفتقد إلى قيادة سياسية، وتدفع إلى المواجهة مع الحكومة سيمهد الطريق لتدخل الجيش للسيطرة على الوضع في البلاد ما يعني انتكاسة لهذه الثورة الشعبية. وتتخوف في تونس المعارضة التي تشارك في الحكومة الانتقالية، من ان يؤدي اخراج التجمعين نهائيا، وغلبة سيطرة اليسار عليها، إلى انتقال المنظومة الأمنية والعسكرية)، إلى دعم تشكيل حكومة تكنوقراطية، تمارس من خلالها السيطرة على البلاد.
في ظل دخول تونس مرحلة جديدة من المخاض العسير لولادة نظام ديمقراطي جديد، استطاعت الثورة التونسية بوساطة التحركات الاحتجاجية والاعتصامات، والإضرابات المضبوطة والمتنقلة، أن تحقق نجاحات جديدة تمثلت في إخراج ما تبقى من شخصيات التجمع الدستوري في المؤسسات الحكومية، والفصل بين الدولة والأحزاب، والإعلان عن تقديم مشروع قانون العفو التشريعي العام إلى البرلمان الذي يشمل مساجين الحركة الإسلامية، وعودة الأحزاب التي كانت محلّ تتبع ومضايقة أو غير معترف بها إلى النشاط بحرية ولا سيما عندما عادت ثلاث منظمات إلى صيغها الشرعية: جمعية القضاة، ونقابة الصحفيين، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، إضافة إلى الاعتراف بجميع الأحزاب المحظورة بما فيها حركة النهضة التي يرأسها الشيخ راشد الغنوشي، وحزب العمال الشيوعي التونسي، وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية، وحزب العمل الوطني الديمقراطي .
وترافق مع كل ذلك إعلان رئيس الوزراء محمد الغنوشي تشكيلة جديدة للحكومة الانتقالية استبعد منها وزراء فريق بن علي عن الحقائب السيادية (الخارجية والداخلية والدفاع والمال)، مذعناً بذلك لضغوط التونسيين الذين كثفوا احتجاجاتهم مطالبين بإقالة رموز الحرس القديم.وجاء في البيان الصادرعن الاتحاد التونسي العام للشغل (المركزية النقابية) الذي اضطلع بدور بارز في تأطير الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بن علي في 14 كانون الثاني، أن الاتحاد لن يشارك في الحكومة، وأن الهيئة الإدارية الوطنية (للمركزية النقابية) قبلت بإبقاء عضوين من حكومة الائتلاف الوطنية وهما محمد النوري الجويني (وزير التخطيط والتعاون) ومحمد عفيف شلبي (وزير الصناعة والتكنولوجيا) إضافة إلى رئيس الوزراء محمد الغنوشي.
إذا كان الشعب التونسي لم يكتف لغاية الآن بإصلاحات على الواجهة، ويرفض استمرار الذين تعاونوا مع النظام السابق لعقود من الزمن، والمعارضة الحقيقية لا تملك اليوم القاعدة الاجتماعية و قادتها كان في أغلبهم في المنفى،فإن تفكيك منظومة الاستبداد والفساد وإرساء نظام ديمقراطي يتطلب استقرار الوضع في البلاد، و التوجه نحو بناء الدولة المدنية.
ويتطلب بناء الدولة المدنية هذه،أن تطلق الحكومة الحالية حواراً وطنياً واسعاً طال انتظاره حول قوانين الدولة الوطنية الحديثة، وأن تدعو كل مكونات المجتمع المدني إلى عقد مؤتمرات استثنائية لكي تنبع هيئات ممثلة ومنتخبة ديمقراطياً، من الاتحاد العام التونسي إلى الأحزاب السياسية والمنظمات بكل أنواعها، علماً أن النظام البوليسي السابق لم يكن يسمح بهذه المؤتمرات حتى في مستوى جمعيات مهنية وحتى على مستوى الحزب الحاكم كان مستوليا على الجمعيات المدنية.
و لما كانت مهمة الحكومة الانتقالية محددة في الانتقال بالبلاد إلى الديموقراطية من خلال إجراء الانتخابات الحرة بإشراف لجنة مستقلة وبحضور مراقبين دوليين لضمان شفافيتها ونزاهتها، فإنها مطالبة بتفعيل لجنة تعديل الدستور حتى تتم هذه الانتخابات الحرّة الرئاسية والبرلمانية، وفيما بعد يتكفل البرلمان الذي سينبثق عن هذه الانتخابات، بتعديل مواد الدستور أو إرساء دستور جديد للجمهورية يضبط قواعد ممارسة السلطة لجهة تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية، وضمان الحقوق والحريات، ذلك أن ميزة الدستور الديمقراطي أنه يضمن الحقوق والحريات وينزلها منزلة الأحكام الخاصة بتنظيم السلطة والعلاقة بين المؤسسات عبر إفراده أحكاما خاصة بها، وتنصيصه على الوسائل الكفيلة بصيانة ممارستها وجعلها في منأى عن تعسف السلطة وشطط ممارسيها، وإرساء دعائم الحكم الدستوري و دولة الحق و القانون.
ففي دولة الحق والقانون تعتبر الرقابة القضائية( (controle judiciareوسيلة أساسية لحماية دولة القانون، وضمان تحققها. كما أن تقوية استقلالية السلطة القضائية من شأنها صيانة دولة القانون و فرض احترامها.
ولا يستقيم بناء الدولة المدنية إلا بتحقيق استقلالية السلطة القضائية، التي تفسح في المجال للقضاء الدستوري ليكون متمتعا ً كما هو الحال في الدول الديمقراطية العريقة، بمكانة مركزية، والإقرار بمبدأ التداول السلمي للسلطة، تلك العملية التي تسمح للشيء بحلول بديل محله، ويجعل الشخص يعقب نظيره في المسؤولية، والإدارة، والقيادة.