محمد عبدالله محمد

احتاج التونسيون إلى تقديم 78 قتيلاً و94 جريحاً ومليارين ونصف المليار دولار لإسقاط نظام بن علي، في حين احتاج الأميركيون إلى قتل مليون ونصف المليون عراقي، وتهجير أربعة ملايين آخرين، وإنبات أربعة ملايين يتيم ومليوني أرملة وحرب أهلية طاحنة أكلت آلاف العراقيين من السُّنّة والشيعة بين العامين 2006 - 2008، بالإضافة إلى إنفاقهم لثلاثة تريليونات من الدولارات لإسقاط نظام صدام حسين وحزب البعث اللذين حَكَما العراق طيلة خمسة وثلاثين عاماً والإتيان بحكومة مِطواعة تقودها الأحزاب الدينية والعلمانية التي كانت في المنفى.

فرَّ زين العابدين بن علي من بلاده في 14 يناير/ كانون الثاني 2011، وفرَّ الشاه محمد رضا بهلوي من إيران في 16 يناير 1979 (أي أن الفارق بينهما يومان فقط). رَفضت فرنسا (الحليف الأول لـ بن علي) استقبال الولايات المتحدة كذلك (الحليف الرئيس للشاهنشاهية) استقبال بهلوي خوفاً على مصالحها في الخليج ونفوذها في المؤسسة النفطية الإيرانية. وما بين المفارقة الأولى، والمقاربة الثانية يظهر أن تونس تُعيد إنتاج أكثر الحركات الثورية نقاوة وانضباطاً، بل وتعيد إنتاج نفسها حقاً، سواء على مستوى الدولة أو المجتمع المدني أو في معاني الطموح والتطلّع.

عند ذلك الحَدّ يطمئن الواحد منا على حال تونس. مجتمع ناهِض استطاع في بحر 26 يوماً أن يُزِيل حُكماً استبدادياً. بل ويُعيد أشْخَص تجارب الثّوار والثورات معاً. لكن وفي نفس الوقت فإن أخوف ما يُخَاف منه هو أن يتحوّل ذلك الحِراك الشعبي التونسي من المُضي نحو التغيير بأقل الخسائر إلى الانزلاق نحو فوضى الدولة والمؤسسات، مُعيداً بذلك تجارب قريبة بائسة منه كالعراق حين سُوِّيَت الدولة العراقية بالأرض ليتحول فضاء الدولة إلى مسرح مفتوح يتقافز على مصطبته الراقصون فرحاً دون أن يكون لهم أيّ حظ من فن الإدارة وضبط المؤسسات.

في تونس وبسبب الضربات التي وجّهها نظام بن علي للطبقة السياسية الحزبية طيلة عشرين عاماً جعلت من وجود قيادات معارضة تتمثّل في حكومة ظل أو حتى جهة مُراقِبة (لشئون الدولة وأرقامها وشئونها) غائبة تماماً، وهو ما يعني أن التغيير الجذري للنظام نتيجته هي الفراغ وضياع المعيارية. وعندما تغيب تلك القيادات أو تُجَوَّف فإن الأمور تؤول بشكل طبيعي إلى القوّة الدافعة، وهي المجاميع الشعبية التي لا تمتلك توجيهاً يُدير المِقْوَد لها كما يجب. لذا فإن التونسيين اليوم هم أمام خيارَيْن: الأول: إما أن يتَّكِؤوا على بقايا الدولة السابقة للوصول إلى منطقة آمنة، والثاني: هو أن يُزِيلوا كلّ شيء فيجلسوا قرفصاء المجلس على أرض بور، غيرَ مُؤهلة لأن يُبنَى عليها أيّ شيء. وهنا تكمن المأساة.

نعم حقبة زين العابدين بن علي في الحريات وبناء مجتمع متعدد ودولة خالية من الفساد لا يتأسَّى ولا يترحَّم عليها أحد، لكن يُمكن أن تُصبح كذلك إن مَالَ الوضع الحالي إلى ظرف قد يرى فيه الناس أنفسهم ومشروعهم وهو يُراوِح ما بين حماسة جيَّاشَة لكنها بلا سند وبلا رؤية وبين طموحات لا تتحقق بالكيفية التي كانوا يطمحون إليها ودولة مُهشَّمَة لا تلوي على شيء. بل إن ذلك قد يجَرّ الجيش (الذي بقي على الحياد طيلة خمسين عاماً) للتدخل لمنع سقوط الدولة التونسية في الفراغ وعدم التوازن ما بين الهوية الوطنية والمشروع السياسي.

جميع الإجراءات التي قامت بها الحكومة الانتقالية هي مُشجِّعة بل وفي عُرف التغيير تُعتبر راديكالية. العفو التشريعي العام (إطلاق سراح 1800 سجين). إطلاق الحريات. اعتقال الجزء المتبقي من عائلة بن علي وتشكيل لجنة لمكافحة الفساد. إصدار مُذكرة اعتقال دولية بحق الرئيس السابق. إعادة قائد القوات البريّة الجنرال رشيد بن عمَّار إلى منصبه بعد أن عزله بن علي لرفضه إطلاق النار على المتظاهرين. واعتقال وزير الداخلية السابق وقائد الأمن الرئاسي. تقديم مساعدات عاجلة لعائلات الضحايا والقتلى وللعائلات الفقيرة والعاطلين. عدم وجود ترميز واستيزار لوجوه سابقة في الحكومة الانتقالية. هذه أمور مُشجّعة جداً.

أما الحديث عن حكومة تنبثق من الشعب دون آليات تنفيذية فإن التساؤل المطروح بموضوعية هو: كيف سيحصل ذلك؟ ومَن المُنفّذ دون أن تُوجد هناك انتخابات ومراكز اقتراع؟! بل كيف يدعو البعض دون دراية وحصافة إلى إنشاء مجلس تأسيسي؟ أو تشكيل هيئة عليا للمحافظة على الانتفاضة لإدارة العملية السياسية والنظر في القوانين والتشريعات؟! كل ذلك أحاديث غير قائمة على وعي سياسي، لأنها بالتأكيد لا تستند إلى معيارية مُحدَّدة، فمن الذي سينتَخِب مَنْ؟ ومَن سيقبل بِمَن؟ ومَنْ سيُعلِن الفائزين من الخاسرين؟ ومَنْ سيُؤطِّر كل ذلك العمل القانوني والتشريعي للوصول إلى قيم ديمقراطية صحيحة؟! هذه تساؤلات مشروعة.

العالَم مليء بالتجارب التغييرية التي بَنَت على قواعد حُكمٍ سابقة. في أبريل/ نيسان من العام 1974 نفَّذت مجموعات اليسار البرتغالي انقلاباً أبيض في لشبونة سُمِّيَ حينها بثورة القرنفل. وبعد 24 شهراً من العملية الثورية المستمرة التي قادها الانقلابيون انتقلت الدولة البرتغالية إلى المسار الديمقراطي دون أن تكنِس بقايا دولتها السابقة. وفي إسبانيا لم يقم الملك خوان كارلوس بعد حقبة الجنرال فرانكو في نوفمبر/ تشرين الثاني 1975 بالقفز في الهواء لتسيير شئون الدولة نحو الديمقراطية وكتابة دستور جديد في العام 1978 بل استعان بإرث الدولة الفرانكوية (الاستبدادية) لتحويل السلطات من المَركَز إلى الأقاليم وتشييد أنظمة الحكم الذاتي على التراب الإسباني. تكرّرت مثل هذه التجارب في دول عديدة ونجحت وأسّست لحكم رشيد.

نقطة النظام المفصلية هنا هي في جملة واحدة. البناء على البناء وليس البناء على الطِّيْن والأرض البور. لأن البناء على المُشيَّد يعني اختصاراً لمرحلة انتقالية حسّاسة ودرءاً لمخاطر تكوُّن طفيليات سياسية تنشأ بين (وعلى) حوافّ البناء الجديد للنظام السياسي لتتمركز دون مُسوِّغ شرعي أو سياسي، بالإضافة إلى وجود مسار نحو رؤية الأفق الجديد. هذه أقصى ما قد يُدركه السياسيون الواقعيون. وفي حالة تونس فإن الطبقة الوسطى فيها صلبة وقادرة على استيعاب تلك التجارب، وما على السياسيين الجُدد إلاّ أن يقولوا كلمة في ذلك.