نسيم الخوري

من الإلحاح على إعادة رسم المنطقة بدم العراق إلى ثورة تونس، ورجفة الجزائر، وتعرّق ليبيا ووقوع السودان في التيه، والتعثر الدولي في العراق وفي أفغانستان أمام ldquo;طالبانrdquo; وrdquo;القاعدةrdquo; جاري باكستان اللاهية بسبحتها النووية، ومن نأي الأردن بنفسه عن الأرق، وتفحّص القطري لمدى بسمته الإقليمية والكونية إلى ركون التركي إلى دوره وتراثه المتجدد ومن الإيراني الذي يجهّز خيط سبحته النووية لتوازن الصلوات والمواعظ الدينية في الشرق الأوسط، إلى نفاد الصبر الكويتي في تأليف الحكومات ومن الفرنسي الحالم أبداً بالفرانكوفونية المنقرضة تدريجياً كما المسيحيين في الشرق تمهيداً لحسن التوازن النووي والمذهبي والطقوسي، ومن هذه الدول مجتمعةً إلى دول الأرض التي تقرأ مخاطر تجدّد شرارة الفتق الدموي في لبنان، يحق لي أن أتساءل كلبناني عالمي:

أين هي أمريكا من طرق السلام وخرائطه وأفكاره ومشاريعه ومبعوثيه في الشرق الأوسط وتحديداً أرض النفط والنبوءات التي لا يمكن أن تمرّ إلا عبر القدس، بل أين أصبحت فلسطين؟ والسؤال الذي يجرح كلّ حبر عربي يكتب أو يثقب كلّ قلب عربي لا يكتب هو: أين هي ldquo;إسرائيلrdquo;؟ ألسنا نراها هي الدولة القاعدة فوق الجدار تغنّي للشرور التي بذرتها ونبتت في الأرض إرهاباً من الأصناف كلها والأنواع والألوان؟ فعلاً أين هي إيديولوجية الإرهاب الصهيوني الذي يبرز اليوم مشهداً حافلاً بالمفارقات، حيث إن ldquo;إسرائيلrdquo; تبدو هي البقعة الأشد استقراراً وأماناً في المنطقة، بينما الدول العربية والإسلامية أرض جاهزة للإرهاب والحروب، وتأليب الدنيا عليها؟

إن القراءة السريعة للعنوان المقترح لهذا المقال تطلعنا على موقف تناقضي من ناحية ويبرر تناقضه من ناحية أخرى . إنّه تناقض يعبّر عن صعوبة منهجية في اقتران العنف الذي هو سمة الإرهاب الأساسيّة بالدين أو بالتراث الديني السائد، خصوصاً في الميدان الذي لا يميل فيه الكثير من الباحثين إلى التفريق بين اليهودية كدين وبين الصهيونية كنزعة عنصرية من حيث فلسفتها ومسالكها وأهدافها . وإذا كنّا نميل إلى التفريق بين هذين المصطلحين لا للتخفيف من غلواء الإرهاب الذي عرفناه مع تاريخ الصراع العربي اليهودي ممثّلاً بدولة العدو ldquo;الإسرائيليrdquo;، ولا لإلصاق الإرهاب كإيديولوجيا صهيونية هي في صلب إنشاء وتكريس ودعم ldquo;إسرائيلrdquo; منذ إزاحة الفلسطينيين عن موطنهم في عام 1948 وصولاً إلى الجهر الراهن بيهودية الدولة ldquo;الإسرائيليةrdquo; الذي يعني تركيز نهائية الدولة الدينية على قاعدة من التاريخ الحافل بالإرهاب بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ قديمة ومعاصرة . نقوم بهذا التمييز المنهجي من دون حماس كبير كي لا تبرّر كلمة الإيديولوجيا ضرورة ربط العنف في عديد من صوره بالتراث الديني في عصر ما أو مكان ما بعينه .

وتدلّ القراءات الأفقية التاريخية، في هذا المجال، على أن العنف السياسي غالباً ما جاء موشّحاً أو متدثراً بالرداء الديني منذ فجر التاريخ، وهو أمر يستثير الدهشة والسخرية بالطبع . فقد ردّد الأشوريون ملاحم الكهنة السومريين القدماء الذين كانوا ينافسون الملوك على ولاء الشعب لهم . كان الدين هو الكتف الذي عليه تتكئ الحروب وتبرر الكثير من الأفعال الدموية والوحشية والإرهابية التي تفترضها الحروب والنزاعات، وتجد في نتائجها الكارثية تفسيرات تدعم الأمل في النصر . هذا ما نجده في الحروب اليونانية، والحروب بين الفرس والإغريق . لكن بالمعنى الديني التوحيدي المحض، يمكن اعتبار اليهود الجماعة المؤمنة الأبرز التي ارتبطت بالإرهاب واعتمدته ما يشابه الإيديولوجيا في الشكل والمضمون والممارسة والطقوس، واستمدّت شرعيته من النصوص القديمة الأولى ومما جاء في التوراة، وخصوصاً في تجليات وحروب وعنف تجاوز الحدود الدينية بالطبع مع أتباع الديانات السماوية الأخرى . وتعتبر الجماعة اليهودية المعروفة باسم السيكارين أول وأشرس منظمة إرهابية في تاريخ الإرهاب، والسيكاريون نسبة إلى الخناجر الرومانية التي تسمّى ldquo;السيكاrdquo; وقد استعملها اليهود في مذابح تاريخية سرية في وجه الرومان . أخذ السيكاريون على عاتقهم تطهير أورشليم من علمانية الرومان مستخدمين العنف الهائل ليس ضد الرومان وحسب بل ضد اليهود المعتدلين أيضاً . وللباحث ألا يغفل أيضاً تاريخ الإرهاب في العصور المسيحية الأولى وصولاً إلى القرن الحادي عشر الذي عرف الإعداد للحملات الصليبية، إلى مظاهر عنف ديني وفوضى إرهابية عرفتها المجتمعات الأوروبية، كما لا يمكنه القفز فوق مسألة ارتباط الإرهاب أيضاً ببعض الجماعات الإسلامية، حيث يجد الباحث الخوارج والقرامطة والحشاشين وبعدهم في تاريخ المغول والتتار والعثمانيين والكثيرين ممن حلّلوا سفك الدماء في ما يناهض النص أو في غير ما أحل الله .

صحيح أنّ للإرهاب جذوراً ذات طابع فكري وفلسفي لطالما اعتبر سجادة الحكم الحمراء (والأمر ليس بالمصادفة أن تكون السجادات التي يعبر عليها الحكام باللون الأحمر، حيث دون قصور الحكم ملايين الأرواح التي أزهقت وتزهق) أي أن العنف هو وسيلة مثلى من وسائل الحكم تجلت نظرياً مع ميكيافيللي ونجده في فرنسا مع الثورة الفرنسية الكبرى في عام ،1789 إلى الحدّ الذي نادت به باريس آنذاك المشرّعين بوضع الإرهاب على جدول الأعمال، ونجده في ألمانيا وروسيا القيصرية والولايات المتحدة الأمريكية والعراق وفلسطين ولبنان وتونس ومصر ومجمل البلدان المنبسطة فوق الرقعة الأرضية . المهم هو الاعتبار أنّ مجمل الجذور والنظريات الفكرية والمدارس الفلسفية والأفكار والديانات لن تجعل من الإرهاب إيديولوجيا .

المفارقة الكبرى أن ldquo;إسرائيلrdquo; ربطت وجودها المادي والمعنوي والعسكري بالإرهاب المسنود إلى قوّتين كبيرتين هما المال والتفوق الإعلامي، وهذه الزوايا الثلاث للمثلث الذي يشكّل قوة ldquo;إسرائيلrdquo; وتحدّيها للعالم تأتي من أن دخولها في نسيج القرارات والإدارات الدولية جعل هذا العالم يقف إلى جانبها ظالمة كانت أم مظلومة وهذا أمر نادر، بحيث تنقلب المقاييس والمفاهيم إلى درجة تسمح لنا هنا بالكتابة عن الإرهاب كإيديولوجيا خاصّة بrdquo;إسرائيلrdquo; ولا تنطبق على غيرها من البلدان إلا بصعوبة فائقة تحيد عن الموضوعية .

المفارقة الكبرى الأخرى الثانية أو الوجه الآخر للمفارقة الأولى هي أنّ ldquo;إسرائيلrdquo; العريقة والعالمة بالأساليب الإرهابية والقابضة على وسائل الإعلام العالمية، ولّدت من موضوع الإرهاب حساسية عالمية كبرى وغربية بالأخص وذلك منذ نسف البرجين وتفشّي الجماعات المتطرفة التي لطالما استعملتها القوى العظمى في تطويق الإلحاد في المنظومة الاشتراكية التي سرعان ما تمّ تفكيكها ووجدت نفسها تماماً مثل الغرب أمام ظاهرة إرهابية يصعب تحديدها وتأطيرها أو القضاء عليها، لأنّ العناصر التي تغذيها متوفرة، وخصوصاً عندما دأبت استراتيجيات الصور المنمّطة الصهيونية على الوصف الديني/ الإسلامي للإرهاب المعاصر وبات سهلاً الكلام عن ldquo;الإرهاب الإسلاميrdquo; أو ldquo;الإرهاب المسلمrdquo; أو المسلمين الإرهابيين . هذا الانقلاب في الصورة الإرهابية بين العرب وrdquo;إسرائيلrdquo; في صراعهم التاريخي الطويل ينزاح راهناً لمصلحة العدو ldquo;الإسرائيليrdquo; وينزاح معه أو يتراجع الكلام الذي عصف بالقرن العشرين في القومية والعروبة والعلمانية والتحرر وغيرها من مصطلحات اليقظة الشرق أوسطية . هكذا تختلط المفاهيم والمصطلحات، فما يعتبره الشعب حرباً تحريرية من محتل أو حاكم ظالمٍ يعتبره المحتل حركة إرهابية، وما تعتبره الجماعات المتطرفة عنفاً سلطوياً تمارسة أدوات الحكومات وتعتبره أجهزة الحكم واجباً وطنياً يكفل الأمن الوطني وسلامته واستقراره .

طبعاً الإرهاب مصطلحاً هو شكل من العنف السياسي غير المبرر لا دينياً ولا أخلاقياً ولا قانونياً، ينطوي على صراع بين نقيضين أو نقائض وقد يصبح ظاهرة صراعية متشابكة العناصر وتتمدد في التاريخ لها أدواتها الكثيرة لكنها تتمحور حول محور الخوف من الآخر وتخويفه وصولاً إلى حدّ الفتك غير المنظّم الذي يتجاوز بعنفه قوانين الغرائز الحيوانية عند ممارسة أساليب الفتك الجماعي بهدف البقاء . قد يقودنا البحث في الإرهاب إلى الإنسان الأول أي إلى قابيل وهابيل بما يسقط كل الحملات والتوصيفات التي ألصقها الفكر بهذا المصطلح المعقد الذي بوشر في استعماله من قلب الثورة الفرنسية وفي عام 1794 تحديداً . الكلمة Terreur تعني الرعب والرهبة وأصلها اللاتيني يعني جعل الآخر يرتجف ويرتعب Terrere, Tersere ومن هذين الفعلين اللاتينيين اشتق مصطلح Terror,Terrorise, Terrorisme أي الإرهاب . يكون هذا الإرهاب فردياً ومنظماً ومدعوماً من الدولة ويصل لأن يصبح إرهاباً دولياً تتشارك فيه أكثر من دولة تتشابك مصالحها وفي أقصاه قد يأخذ الإرهاب شكل التطهير العرقي أو العنصري وهو ما تقوم به دولة العدو ldquo;الإسرائيليrdquo; عن طريق تصفية التاريخ الفلسطيني والصراعي لأجل دولة دينية ولأجل جغرافيا شرق أوسطية حيث النار والإرهاب في كلّ مكان . تتجاوز ldquo;إسرائيلrdquo; في إرهابها النكسة والنكبة ووصم المقاومة بالإرهاب ومحاولة تطويقها بالمحكمة الدولية ومسلسل الاتهامات، والهدف الأقصى تصفية الوجود العربي الفلسطيني نهائياً لإعلان القدس عاصمة ldquo;إسرائيلrdquo; الدولة اليهودية المعترف بها من العالم .

يصعب بمعنى الوقائع رصد حركة الدم الذي تتركه ldquo;إسرائيلrdquo; خلفها كدولة إرهابية منذ نشأتها لأنها مهمة تحتاج إلى الكثير من الرشد والتحمل الصعب والانتباه الدقيق لما يمكن تسميته بسلام الاستحالة لا الإمكان . لا يتغير في سياق الأحداث والصراعات لتحقيق الإرهاب ldquo;الإسرائيليrdquo; المتنامي سوى استبدال الوسائل الحربية . في فلسطين: ستّة عقود من التفجير والتقتيل والفتك والمذابح (أولها مذبحة دير ياسين)، الانتفاضة الأولى أو ثورة الحجارة 1987 وما جرّت من قتلى وجرحى(107000 جريح ومعاق فلسطيني)، انتفاضة الأقصى 2000 ومنها لا تزال أعداد الضحايا الفلسطينيين في تزايد وقائمتهم مليئة بالأطفال والنساء والعجزة، وكلّ ما يحصل من إرهاب يدور تحت معادلة الدعاية الصهيونية بأن اليهود شعب مسالم يأخذ من الإجراءات ما يكفل له قمع الإرهاب الفلسطيني . إسقاط أسوار أريحا وإعلان موت الفلسطينيين من تمهيد قطاع غزة وتسويته جرفاً بالأرض ليصبح أكبر مخيم للاجئين في العالم، ومحاصرة القدس بالمستوطنات، ورمي فلسطينيي الداخل إلى عوالم الشتات . احتكار وسائل القوة . . ممارسات أجهزة الأمن والقمع والتعذيب والجرائم المنظمة والإرهاب الحقيقي، الذعر القلق، التوتر، إيقاظ الفتن والخلافات، اللاجئين والترانسفير في لبنان مثلاً احتلال جنوبي لبنان 1982 مع ما رافقه من أعمال إرهابية، مذابح صبرا وشاتيلا، معتقل أنصار حيث الصلب على الجدران والضرب المبرح وعصب الأعين والاستجواب مع استخدام وسائل التعذيب بالكهرباء وغيرها . قانا الأولى نيسان 1996 وقانا الثانية 2006 بفارق عقدٍ من الزمن .

قد لا ينتسب الإرهاب إلى دولة دون أخرى وقد لا يمكننا أن ننعت به ديناً دون آخر، لكن قراءة التاريخ السياسي والعسكري لدولة ldquo;إسرائيلrdquo; يمكّننا من معاينة مدى تشبّع تاريخها بمجمل الأساليب والمدارس الغريبة في إرهاب الشعوب المحيطة بها، مع ما يتركه هذا الإرهاب من آثار نفسية واجتماعية وصراعات متجذّرة عبر الأجيال يجعل السلام معها مسألة بالغة التعقيد أو مستحيلة .

إن لم تحسم الإجابات عن الأسئلة المطروحة في بداية هذا المقال، المفترض أن أعيد قراءته، يمكن القول إن الإرهاب قد يعمّم كإيديولوجية، وتكون نتائج ذلك كارثية على ldquo;إسرائيلrdquo; والغرب كلّه على السواء، وكلّ ما يمت بصلةٍ إلى هذا الغرب ولو بالشكل .