فيصل القاسم


ليس خافياً على أحد أن النظام الوراثي لم يعد مقتصراً على الملكيات والإمارات العربية، بل أصبح تقليداً مفضوحاً في الجمهوريات العربية، ولولا ثورة الشعب المصري العظيم لحكم جمال مبارك وذريته بعد أبيه إلى أبد الآبدين. ولولا الثورة التونسية المجيدة لورثت ليلى طرابلسي أو أحد أقاربها الحكم من بن علي. ولولا الانتفاضة اليمنية المباركة لما أعلن علي عبد الله صالح عدوله عن الترشح والتوريث. ولولا الانتفاضة الليبية لساد القذاذفة جيلا بعد جيل، ولما بدأ آخرون يستبعدون البقاء في الحكم مدى الحياة. وقد قال صحفي أجنبي إنه أجرى في الماضي لقاء صحفياً مع رئيس عربي، وأثناء اللقاء دخل ابن الرئيس ولم يبلغ عمره وقتها بضع سنوات، فسأل الصحفي الرئيس: من هذا الطفل، فأجاب الرئيس بابتسامة عريضة: إنه الرئيس المقبل للجمهورية. هكذا بكل بساطة. تصوروا إلى أي حد وصل استخفاف الرؤساء العرب بشعوبهم، إنهم يريدون quot;تطويبquot; البلاد لهم ولذريتهم إلى ما شاء الله.
ما حدا أحسن من حدا، يخبرنا الرؤساء العرب بطريقة أو بأخرى. هم يريدون أن يقولوا لنا: الملوك والأباطرة والسلاطين ليسوا أحسن منا. وفعلاً لم يعد هناك فرق بين رئيس جمهورية والسلطان، بدليل أن معظم العائلات الجمهورية والجماهيرية الحاكمة أصبحت تتعامل مع بلدانها على أنها أشبه بالملك الخاص لهذا الرئيس وذريته وأقاربه وحاشيته، لا بل سمعت ذات يوم من أحد المقربين من أحد الرؤساء العرب جملة لن أنساها. قال لي وهو يضحك بتبجح فاقع: quot;نحن شعب الله المختار هناquot;. وبناء على هذا الشعور راح معظم الرؤساء يستغلون ثروات البلاد بطريقة بشعة ومفضوحة للغاية، كيف لا وهم قد غدوا سلاطين، إلى حد أن ابن أحد الرؤساء أقام حفلة عيد ميلاد قبل مدة في بلد أوروبي، ودعا مطربة غربية مشهورة لإحياء الحفلة. وقد تقاضت المطربة أكثر من مليون ونصف المليون دولار على حوالي ساعة من الغناء. وللتأكيد فإن المبلغ كان لقاء الغناء فقط، لأنها جاءت بصحبة زوجها. الله ستر بأن بعلها كان معها، وإلا لكان المبلغ أكبر بكثير.
وحدث ولا حرج عن الأخوة الآخرين لذلك المحتفل بعيد ميلاده الذين يتلاعبون بأموال البلاد كما لو كانت أموال أبيهم. ولا داعي للحديث عن أن العائلة تمتلك مئات الشركات والمؤسسات ذات رؤوس الأموال المليارية. ولو كانت المليارات مستثمرة لشركات وطنية لباركنا ذلك الاستثمار، لكنها شركات خاصة بأسماء الزعيم وأبنائه وبعض المقربين.
ولو كانت بلاد هذا الصنف من الزعماء مزدهرة لربما غضضنا الطرف عن شطحاتهم اللصوصية، لكن بلدانهم تفتقر إلى أبسط البنى التحتية من طرقات ومستشفيات، وفنادق وغيرها. ولو قارنا البنى التحتية في الجمهوريات العربية ذات الأنظمة الملكية مع البنى التحتية في الملكيات والإمارات العربية لوجدنا الأخيرة عظيمة للغاية، فهي تمتلك أحسن الجامعات والمدارس والمستشفيات والطرق والجسور والفنادق، بينما لم تستطع بعض الجمهوريات إدارة فندق، بدليل أن كل الفنادق التي كانت تحمل أسماء عربية خلال العقدين الماضيين تغيرت أسماؤها بعدما فشل عتاولة الجمهوريات فشلاً ذريعاً في إدارتها، لتستحوذ عليها شركات فندقية غربية شهيرة.
قارنوا بين الإمارات والممالك النفطية والجمهوريات النفطية. صحيح أن الفساد مستشر في النوعين، لكن الإمارات استثمرت في البنيان والإنسان بطريقة أفضل بعشرات المرات من الجمهوريات النفطية التي يأكل بعض أبنائها من الزبالة، ولا يجدون مكاناً يؤويهم بسبب غلاء العقارات واستحواذ عصابات حاكمة على مقدرات البلاد كجنرالات الأرز والقمح والبترول في الجزائر مثلاً.
وكم تعجبت من إحدى الجمهوريات التي تعوم على بحر من النفط، ولم تستطع حتى الآن بناء شبكة صرف صحي، إذ تمتلئ بعض المناطق والشوارع بروائح كريهة للغاية، بينما تستثمر quot;العائلة المالكةquot; في تلك الجمهورية المليارات خارج البلاد في الفنادق الفاخرة وشركات الفاكهة والأغذية وغيرها.
وعلى ما يبدو لن يشبع الرؤساء العرب وأولادهم وأقرباؤهم وحاشياتهم من نهب البلاد والعباد، فهم يتغولون تجارياً يوماً بعد يوم، إلى حد أنهم أكثر اهتماماً بالصفقات والشركات والمشاريع التجارية والعقارية من أي شيء آخر. ولا أدري كيف سيدافع بعض الرؤساء العرب عن جمهورياتهم ضد الأعداء إذا أصبحوا رجال أعمال محترفين يفهمون بتكديس المليارات أكثر من إدارة الجمهوريات والمعارك. فبدلاً من أن يكون لدينا مثلاً لواء أركان حرب صار لدينا لواء أركان سكر وزيت وويسكي وسيارات، وعماد أركان فن طبخ وتصميم أزياء إلى آخره.
وقد شاهدنا إلى أي حد وصل الأمر بجمهورية شين الناهبين بن علي وأصهاره. لقد تحولت تونس في عهده إلى شركة عائلية أو quot;مافياquot; تديرها quot;الحلاقةquot; كما يسميها التوانسة وأخوتها وزوج ابنتها من أمثال بالحسن طرابلسي وصخر الماطري الذي تربطه علاقات تجارية كبيرة بنظرائه في جمهوريات عربية أخرى.
هل اتعظ الرؤساء العرب بما حل بزميليهم مبارك وبن علي وعائلته التي كانت مالكة لتونس؟ لا أتحدث هنا عن إمكانية سقوط الرؤساء العرب كما سقط الرئيسان التونسي والمصري، بل أتحدث عن أن كل المليارات التي نهبها الرئيس التونسي وزمرته الحاكمة من أبناء وبنات وأصهار وأقرباء لم تنفعه أبداً بعد هروبه تحت جنح الظلام.
صحيح أن زوجته quot;الحلاقةquot; أخذت معها أكثر من طن ونصف الطن من الذهب المسروق، وصحيح أن بن علي كان قد اشترى قصوراً ومزارع في الأرجنتين وأوروبا، وأودع المليارات في البنوك الغربية. وصحيح أن بالحسن طرابلسي أخ الحلاقة يمتلك قصوراً ومليارات في كندا، وصحيح أن صخر الماطري زوج إحدى بنات ليلى طرابلسي يمتلك بنوكاً وطائرات خاصة وشركات موبايل. وصحيح أن ثروة مبارك لوحده تجاوزت السبعين ملياراً. لكن كل تلك الثروات لن تنفعهم بشيء، فبن علي يحتضر الآن لاجئاً هارباً على حساب الشعب السعودي، ناهيك عن أن الشعب التونسي العظيم استطاع بفضل شجاعته وتضحياته ورجولته أن يفرض على البنوك السويسرية والاتحاد الأوروبي أن يجمد كل ثروات ومليارات بن علي وعائلته، لا بل فرض على الانتربول بأن يعتقله.
أما كندا فقد ألقت القبض على لص تونس الأكبر بالحسن طرابلسي وعائلته، وسيتم تسليمه للشعب التونسي، وستعود ملياراته المنهوبة إلى من يستحقها من فقراء سيدي بوزيد والقصرين وتاله. وبالنسبة لصخر الماطري، فهو لا يستطيع أن ينعم بمسروقاته المهولة لأنه مُلاحق كمجرم وسارق. فما قيمة المليارات إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يستمتع بها ومعروف أنه سرقها، وهي حال مبارك أيضاً.
تذكروا فقط كم كانت زوجة بن علي وأخوتها وأقاربها وأقاربه وذووه وبالاً على الرئيس! تذكروا كيف كانت سوزان وجمال وعلاء كارثة على مبارك. فألجموا حاشياتكم قبل فوات الأوان!
يا أيها الرؤساء العرب، أنتم وأقرباءكم وحاشياتكم، فلتعلموا أن ملياراتكم لن تنفعكم يوم تحشركم الشعوب وتهربون من بلدانكم. هل شاهدتم فضيحة فرعون مصر وعائلته؟ لقد أفشت الصحافة العالمية كل ملياراته المسروقة، ولا أعتقد أنه سيستمتع بها، بل ستكون وبالاً عليه وعلى ذريته.
صدقوني فإن شعوبكم ستستعيد كل مسروقاتكم، فالزمن الأول تحول. ولم يعد بإمكان الرؤساء المخلوعين أن يحولوا المليارات إلى الغرب أو إلى البنوك الخليجية، فالآن هناك منظمات وحركات وجمعيات تستطيع فضحهم وملاحقتهم واسترجاع كل فلس سرقوه من شعوبهم، ناهيك عن أن الشعوب لن تكتفي من الآن فصاعداً بإسقاط الحاكم، بل بمحاكمته واسترجاع المليارات التي نهبها والحجز على العقارات والمزارع التي اشتراها في أي مكان في العالم.
وإذا كان بعض الجنرالات العرب كان ارتكب مجازر بحق شعبه، ثم هرب بملياراته إلى الغرب ليشتري الفنادق والقصور والعمارات، فحتى هؤلاء سيلاحقون الآن حتى لو مضى على إقامتهم في بعض العواصم الغربية عشرات السنين. وأنا أعرف منظمة محترمة ستبدأ قريباً بنشر غسيل أولئك الجنرالات الوسخ على الملأ في كل وسائل الإعلام، وخاصة على الإنترنت. فلا حصانة لأي جنرال سارق من الآن فصاعداً.
صحيح أن بعض الرؤساء العرب هربوا من بلدانهم قبل سنوات وهم يعيشون الآن في قصور في بعض الدول، لكن ذلك الزمان مضى، ولا أدري إذا كان الشعب الذي ينتمي إليه أحد الرؤساء العرب الهاربين سيحرك ضده قضايا نهب وسلب واختلاس في القريب العاجل. وحسبما أخبرني أحدهم، فإن هناك تفكيراً جدياً بملاحقة بعض الهاربين السارقين منذ سنوات. فالشعوب لن تصمت بعد اليوم على سارقي قوتها الذين نهبوا القمح والزيوان معاً.
هل يتعظ رؤساؤنا بعد كل ذلك؟ ليتكم تتعلمون من الرئيس البرازيلي العظيم لولا دو سيلفا الذي خرج قبل فترة من الحكم براتب شهري زهيد فقط، مع العلم أنه حقق لبلاده أكثر مما حققتم لبلادكم بمئات المرات؟ ليتكم تتعلمون من رئيس وزراء ماليزيا العظيم مهاتير محمد الذي جاءه ذات يوم رجل أعمال كبير جداً ليهديه بضعة ملايين من الدولارات، فأجابه مهاتير: quot;أشكرك جزيل الشكر على هديتك، فلدي راتب جيد، ولا أعرف كيف أنفقه. وسأكون شاكراً لو أرشدتني كيف أصرفهquot;.
أيهما أفضل، أيها الرؤساء العرب، أن تنتهوا نهاية دو سيلفا ومهاتير الكريمة والعظيمة، أم نهاية بن علي ومبارك المُخزية والحزينة؟ أيهما أفضل أن تدخل التاريخ كرئيس حرامي، أم كرئيس عصامي؟ أرجوكم فكروا قبل فوات الأوان!