الحسين الزاوي
لعبت الجيوش العربية دوراً كبيراً وطلائعياً في تشكيل الدولة العربية الحديثة، نتيجة لاعتبارات تاريخية وسياسية متعددة، ويتعاظم دورها بشكل لافت في الدول العربية التي أقامت نظامها السياسي على أسس جمهورية، حيث إنه وفي ظل غياب مؤسسات ملكية راسخة يمارس الجيش دور الضامن والحارس لقواعد اللعبة السياسية، كما يُمثِّل الحصن الذي يلجأ إليه المجتمع المدني بمختلف مكوناته في حالة نشوب خلاف بين الأطراف المتصارعة على السلطة، وكذا في الحالات التي ينشأ فيها فراغ دستوري . وقد قفز دور الجيوش العربية إلى واجهة الأحداث منذ ثورة الضباط الأحرار في مصر سنة ،1952 وأسهم بعضها في تشكيل المشهد السياسي لدول عربية عدة مثل سوريا والجزائر وليبيا خلال فترة الستينات من القرن الماضي .
وقد عاد الحديث مرة أخرى عن دور المؤسسة العسكرية في تسيير المرحلة الانتقالية بعد انتصار الثورتين الشعبيتين في كل من تونس ومصر، خاصة وأن المؤسستين العسكريتين في هذين البلدين استطاعتا أن تحوزا تعاطفاً شعبياً واسعاً نتيجة لرفضهما ممارسة القمع ضد المظاهرات السلمية التي كانت تطالب بإسقاط النظام وإقامة حكم ديمقراطي تعددي يضمن التداول السلمي على السلطة .
والحقيقة أن انخراط الجيوش العربية في السياسة أخذ مظاهر متعددة بحسب الظروف التاريخية التي عايشها كل قطر عربي، فالجيش المصري حافظ على تقاليده القومية والوطنية منذ السنوات الأولى لتأسيسه في بداية القرن الماضي . وبالتالي فإن النخبة العسكرية المصرية كانت ذات توجهات عروبية واضحة حتى في ظل النظام الملكي، الذي كانت تربطه علاقات ودية بمؤسسات الانتداب البريطاني، وقد عبرت هذه التوجهات عن نفسها خلال ثورة الضباط الأحرار . ويمكن القول إنه وبالرغم من كل ما عرفته المؤسسة العسكرية المصرية من تحولات على مستوى عقيدتها السياسية في عهدي السادات ومبارك، فإنها حافظت على رسوخ توجهاتها الوطنية والقومية؛ واستطاعت خلال أحداث ثورة 25 يناير/ كانون الثاني الماضي أن تحسم موقفها لمصلحة الحفاظ على تطلعات الشعب، الأمر الذي سمح لها بتجنيب مصر خسائر كبيرة في الأرواح . أما الدور الذي لعبه الجيش التونسي من الناحية التاريخية فقد اتسم إلى حد ما بنوع من التواضع، لأن نظام الرئيس بورقيبة ومنذ السنوات الأولى للاستقلال لم يكن يشأ أن يعطي أهمية كبيرة للمؤسسة العسكرية، ولم يكن ينظر بالتالي بعين الرضا إلى الدور الذي كانت تضطلع به المؤسسة العسكرية في كل من مصر والجزائر، وعمل في المقابل على تقوية الأجهزة الأمنية وفي مقدمها الشرطة . لذلك فإن شباب ما أصبح يعرف بثورة الياسمين في تونس لم يجدوا أي حرج في طلب دعم المؤسسة العسكرية، وتحديداً بعد أن رفض قائد أركان القوات البرية التونسية أن ينفِّذ أوامر الرئيس بن علي، بإطلاق النار على المتظاهرين، كما حرص بعد ذلك في المحافظة على الشرعية الدستورية، ورفض أن يتسلم السلطة الانتقالية بشكل مباشر، مفضِّلاً الاكتفاء بدور المراقب لعملية التحول الديمقراطي، خاصة وأن نخبة الجيش التونسي متأثرة إلى حد بعيد بمبادئ القيم الجمهورية التي تؤمن بها بعض الجيوش الغربية العريقة مثل الجيش الفرنسي .
أما الجيش الجزائري فقد ظلت علاقته بالسياسة راسخة إلى أبعد الحدود منذ مرحلة الحرب التحريرية ضد الاستعمار الفرنسي، وقد يعود ذلك في جانب منه على الأقل إلى أن القادة المؤسسين لهذا الجيش كانوا أعضاء فاعلين في جيش التحرير الذي كان يتخذ القرارات الحاسمة حتى داخل التنظيم المدني لجبهة التحرير الوطني في زمن الثورة المسلحة . وبعد فترة وجيزة من الوفاق بين الأعضاء المدنيين والعسكريين لجبهة التحرير في عهد الرئيس بن بلة، عاد قادة الجيش ليحسموا قواعد اللعبة لمصلحتهم بعد الانقلاب الذي قام به العقيد هواري بومدين سنة 1965 . ورغم محاولة المؤسسة العسكرية في الجزائر الانسحاب من واجهة المسرح السياسي واستقالة أفرادها من اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الحاكم بعد انتفاضة 5 أكتوبر/ تشرين الأول ،1988 التي سمحت بقيام تعددية سياسية وإعلامية غير مسبوقة في الجزائر، فإن عدم قدرة الطبقة السياسية على صون المكاسب الديمقراطية وتطرف بعض أقطاب المعارضة في مطالبها إلى درجة الشطط، كلُّها عوامل أدت مجتمعة إلى إجهاض التجربة الديمقراطية الفتية، ودخول الجزائر في مرحلة من انعدام الاستقرار أفضت إلى عودة المؤسسة العسكرية إلى واجهة مسرح الأحداث من أجل إنقاذ ما تبقى من أشلاء الدولة الجزائرية في مرحلة التسعينات من القرن الماضي .
الجيش السوري هو الآخر كان له دور فاعل في بناء الدولة السورية المستقلة سواء في زمن الوحدة مع مصر، أو بعد تولي الرئيس حافظ الأسد للسلطة في ستينيات القرن الماضي، والشيء نفسه يمكن أن يقال عن الجيش المغربي، الذي وخلافاً للأنظمة الملكية الأخرى في العالم العربي، استطاع أن يلعب دوراً محورياً في تاريخ المملكة بعد الاستقلال، خاصة في مرحلة الجنرال أوفقير والجنرال الدليمي . ورغم أن الصراع بين المؤسسة العسكرية والقصر قد حسم لمصلحة هذا الأخير في زمن الملك الراحل الحسن الثاني، فإن المؤسسة العسكرية بالمملكة ما زالت تواصل حضورها من خلال المهام الدستورية التي يؤديها الملك، خاصة وأن العاهل المغربي محمد السادس حصل على تكوين عسكري رفيع المستوى داخل أكاديميات الجيش الملكي . وعليه، فإن استعراضنا في هذه العجالة لبعض الجوانب التاريخية المرتبطة بعلاقات المؤسسات العسكرية العربية بأنظمة الحكم يهدف إلى محاولة استقراء مستقبل علاقات هذه المؤسسات العسكرية بالتحولات المقبلة التي ستحدث في الدول العربية التي شهدت أو التي ستشهد ربما في المستقبل ثورات مقبلة، فبالنسبة للحالة التونسية يمكن القول إن الانتخابات المقبلة ستسمح ببروز نخبة جديدة ستحافظ لا محالة على الشكل التقليدي للعلاقة الموجودة بين مختلف مؤسسات الدولة، ويمكن الزعم هنا أن الرئيس المقبل لتونس لن يتخلى عن النهج المنفتح والتحديثي لتونس، وسيواصل سياسة التقارب الحالية مع الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، ولن يكون هناك بالتالي أي تحول جذري في توجهات السياسة التونسية خاصة على المستوى الدولي . أما في مصر، فحتى وإن لم يُنتخب الرئيس المقبل من داخل المؤسسة العسكرية، فإنه من المفترض أن يحظى بقبولها على الأقل، وفضلاً عن ذلك فإن المؤشرات الحالية تؤكد أن الجيش المصري لن يسمح مستقبلاً بأن يُضحي باستقلاليته لمصلحة مؤسسة الرئاسة، حتى يكون بإمكانه أن يمارس في المستقبل دور الضامن للعملية السياسية بشكل مؤثر وفعال .
التعليقات