احمد عبد المعطي حجازي

لابد أن نعترف بأن ما حدث في مصر منذ الخامس والعشرين من ينايرrlm;,rlm; ولايزال يحدث ويتحقق حتي اليوم شيء مذهلrlm;.

rlm; لا يذهلنا وحدنا نحن المصريينrlm;,rlm; بل يذهل العالم كله من حولناrlm;,rlm; كما رأينا في ردود الفعل التي بدا فيها ميدان التحرير بالملايين الذين احتشدوا فيه من الرجال والنساء والأطفالrlm;,rlm; والمعارك التي كان مسرحا لها ودارت بين هؤلاء الذين لم يكونوا يملكون إلا أرواحهم ولا يحملون إلا شعاراتهم وبين الجماعات التي تصدت لهم من المرتزقة المأجورين الذين كانوا مسلحين بالبنادق والقنابلrlm;,rlm; وبالسيوف والخناجرrlm;,rlm; وبالسيارات والإبل والخيول والبغالrlm;.rlm; كأن هذه المعركة التي دارت بين الثوار وبين هؤلاء المرتزقة كانت تمثيلا رمزيا لتاريخنا المأساوي الذي امتد من القرن الرابع قبل الميلاد إلي القرن العشرينrlm;,rlm; حين تداولتنا أيدي الغزاة والطغاةrlm;,rlm; القادمين إلينا من الشرق والغرب بخيولهم وإبلهم وسفنهم وعرباتهم يسرقون ثروتنا ويدمرون حضارتنا ويستعبدوننا جيلا بعد جيلrlm;.rlm;
فإن كان هؤلاء الغزاة الطغاة قد هزمونا طوال هذا التاريخ المأساوي فقد هزمناهم في ميدان التحريرrlm;.rlm; هزمناهم بسلاح تبين لنا مضاؤهrlm;,rlm; وهو أن نكون معا فسنشعر الأمن ونسترخص التضحيةrlm;,rlm; ونخيف المرتزقة الذين لا تغني عنهم سياراتهم وإبلهم وبنادقهم وسيوفهم شيئاrlm;.rlm;
لقد غسلتنا الدماء التي أهريقت في ميدان التحرير وطهرتنا من إحساسنا الباهظ الموروث بالذل والسقوطrlm;,rlm; وردت لنا شعورنا الكامل بكرامتنا وإنسانيتناrlm;,rlm; فنحن لانشكو الفقر وإن كنا فقراءrlm;,rlm; وإنما نأبي القهر ونحارب الطغيانrlm;,rlm;ونحن لا نطلب الخبز وإن تعرضنا للجوعrlm;,rlm; وإنما نطلب الحريةrlm;.rlm; ونحن شجعان نواجه الموت حين لا يكون من الموت بدrlm;,rlm; لكننا نكره العنفrlm;,rlm; وننظف أرض الميدان من آثار المعركةrlm;.rlm; أليس هذا جديرا بأن يبهر العالم ويثير إعجابه واعتزازه ويدفعه لأن يراجع نفسه ويتساءل عما حدث وكيف حدث؟
بل هو يبهرنا نحن ذاتناrlm;,rlm; فقد فوجئنا بما لم نكن ننتظره من أنفسنا أو نتوقعهrlm;.rlm;
نعمrlm;,rlm; كنا نري رأي العين أن الفساد دب في كل شيءrlm;,rlm; في الأرض وفي الملحrlm;,rlm; وفي الجسم والرأسrlm;,rlm; في السياسة والاقتصادrlm;,rlm; وفي الثقافةrlm;,rlm; وفي الإعلامrlm;,rlm; والوزير والشرطيrlm;,rlm; والرئيس والمرؤوسrlm;,rlm; والتفكير واللغةrlm;,rlm; والتلحين والغناءrlm;,rlm; والشعر والنثرrlm;,rlm; لكننا لم نكن نتصور مع هذا كله أن يحدث ما حدثrlm;.rlm;
كانت هناك صور من التنفيس مرسومة ومحصورة في أضيق الحدود تتمثل في بعض النشاط الحزبي والنقابي الشكليrlm;,rlm; وبعض المقالات الصحفيةrlm;,rlm; وبعض المظاهرات والاحتجاجاتrlm;,rlm; لكن السلطة كانت تمسك هذا كله وتراقبه بمختلف الطرقrlm;,rlm; فأجهزة الأمن في يدهاrlm;,rlm; وأجهزة الإعلامrlm;,rlm; وبما أن الحرية لا تتجزأrlm;,rlm; والديمقراطية مرتبطة عضويا بالعقلrlm;,rlm; والحق في الاختيار الحر هو الحق في التفكير الحر والتعبير الحر والاعتقاد الحرrlm;,rlm; فلابد من استخدام المؤسسات الدينية وإشراكها في السلطة لتخويف المعارضين وكبح جماحهم واتهامهم عند اللزوم والطعن في عقيدتهم وإثارة العامة ضدهم حتي تظل النخبة المثقفة معزولة بعيدة عن الجماهيرrlm;,rlm; وتظل الجماهير معزولة مغيبة محرومة من الاتصال بالنخبة التي تستطيع أن تحدد لها الهدف وتنير لها الطريقrlm;.rlm; هكذا استطاعت السلطة الحاكمة أن تتحكم في المعارضةrlm;,rlm; بل استطاعت أحيانا أن تصنعها بحيث تقف إلي جانب النظام تنتقد بعض جوانبه الظاهرة دون أن تتجاوزها إلي كشف الأسس الفاضحة أو الوصول إلي المعلومات والحقائق التي تبين حجم الكارثة وترسم صورة الخراب الذي نعيش فيهrlm;,rlm; كيف كان لنا إذن أن نفهم؟ وكيف كان باستطاعتنا أن نثور؟
ونحن المصريين كنا مضطرين دائما لأن نخاف من السلطة التي كانت بطبيعتها متوحشة معناrlm;,rlm; لأنها طوال القرون التي فقدنا فيها استقلالنا كانت سلطة أجنبية لا تربطنا بنا علاقة تبرر وجودها في بلادنا أو تخفف من بطشها وتجعلها رحيمة معناrlm;,rlm; خاصة ومعظم الأجانب الذين حكمونا قادمون من مجتمعات بدائية وثقافات تميزت بالعنف والاستهتار بالحياة الإنسانيةrlm;,rlm; والذين أرخوا عندنا للمماليك والترك كابن إياس والجبرتي يحدثوننا عن صور من الوحشية تثير الرعب حتي الآنrlm;.rlm; من هنا تعلمنا أن نخاف من السلطة ونتحمل من شرورها ما هو دون التشريد والاعتقال والتعذيب إلي حد الموتrlm;,rlm; وكلها كانت ممكنة ومضمونة للنظام المنهار بما يملك من أجهزة معروفة وأجهزة خفيةrlm;,rlm; ومن قوانين يعملها وقوانين أخري يبطلهاrlm;.rlm;
والمصريون فلاحون آباء عن أجداد يعيشون ويعملون في أرض سهلة مفتوحة لا مهرب منها ولا ملجأ من بطش الحاكم الذي نعرف أنه كان أجنبيا لا يعرف البلاد ولا يتكلم لغتها ولا ينتمي لأهلهاrlm;,rlm; وحتي عندما انتقلت السلطة إلي أيدي من ينتسبون لنا ظلت علاقتهم بنا قائمة علي القهر والقمع والتخويف والترويعrlm;,rlm; وتحول الحكام المصريون إلي ورثة أوفياء للتقاليد الاستبدادية الوحشية التي اتبعها معنا الغزاة الأجانب منذ انهارت دولتنا الوطنية وهي دولة الفراعنة في القرن الرابع قبل الميلاد إلي أن هب آباؤنا يطلبون حريتهم واستقلالهم من المحتلين البريطانيين في ثورةrlm;1919rlm; التي جاءت بديمقراطية وليدة لم تنتفع بها إلا الطبقات الميسورةrlm;,rlm; ثم تلاها انقلاب يوليو الذي استكثر صناعه علينا هذه المساحة المحدودة من الديمقراطية فأعادونا إلي ما كنا عليه في أيام الأتراك والمماليكrlm;.rlm;
كيف حدث ما حدث إذن في الخامس والعشرين من يناير؟ وكيف ثارت مصر هذه الثورة التي صدقت قول شاعر النيل حافظ إبراهيمrlm;:rlm; وقف الخلق ينظرون جميعاrlm;!rlm;
وأنا لا أبالغ أدني مبالغة حين أقول هذا القولrlm;,rlm; ولا أحتاج للمبالغةrlm;,rlm; فقد كفتني إياها شهادات الآخرينrlm;,rlm; وحسبي أن أشير إلي ما قاله الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي يربطنا به أكثر من سببrlm;.rlm; فهو من أصول إفريقيةrlm;,rlm; والإسلام مصدر من مصادر ثقافتهrlm;,rlm; وهو يدين بوجوده ومكانه الذي يحتله في أمريكا وفي العالم لإبراهام لنكولن الذي حرر العبيدrlm;,rlm; ومارتن لوثر كنج الذي ناضل ضد التمييز العنصري وضحي بحياته كما فعل لنكولن في سبيل المساواة التي أوصلت أوباما إلي السلطةrlm;,rlm; ومن هنا شعوره بالقرابة والانتماء لمصر التي قدمت الكثير للعالم في الماضيrlm;,rlm; وسوف تقدم له الكثير في المستقبل كما قالrlm;,rlm; ويظل ما حدث في مصر مفاجأة مذهلة تحتاج للتفسير وتبعث علي التساؤلrlm;:rlm; كيف حدث ما حدث؟
حين نقارن بين ثورة الخامس والعشرين من يناير هذا العام في مصرrlm;,rlm; وثورة الخامس والعشرين من أكتوبر عامrlm;1917rlm; في روسياrlm;,rlm; وثورة الرابع عشر من يوليو عامrlm;1789rlm; في فرنسا نري فرقا واضحاrlm;,rlm; فقد كان وراء الثورة البلشفية حزب منظم وعقيدة سياسية راسخة وتطورات وتفاعلات شهدتها الحياة الروسية طوال القرن التاسع عشرrlm;,rlm; وكذلك في الثورة الفرنسية التي كان وراءها عصر الأنوارrlm;,rlm; وكتابات فولتيرrlm;,rlm; ونظريات روسو ومونتسكيوrlm;,rlm; فضلا عن النوادي والجماعات السياسيةrlm;,rlm; التي تشكلت خلال الثورة ولعبت فيها أدوارا أساسية كاليعاقبة المتطرفين والجيرونديين المعتدلينrlm;.rlm; هذه المقدمات التي مهدت للثورات الأخري وهذه الزعامات التي أتيحت لها ليس لها علي ما يظهر وجود في الثورة المصرية التي تفجرت علي غير انتظارrlm;,rlm; وفوجئ بها المعارضون المصريون كما فوجئ بها الحكامrlm;.rlm; وهو الأمر الذي هزنا من الأعماقrlm;,rlm; وآثار إعجاب العالمrlm;,rlm; لأن الثورة قامت وكأنها اتفاق كامل وإجماعrlm;,rlm; فالملايين تشارك في المظاهراتrlm;,rlm; والذي يحدث في القاهرة يحدث في الإسكندريةrlm;,rlm; وأسوانrlm;,rlm; وفي العريش والواحاتrlm;,rlm; وفي المدن وفي القريrlm;.rlm;
كيف حدث هذا كله دون قيادة ودون مقدمات كما يبدو لنا في الظاهرrlm;,rlm; وكما يقول معظم الذين يتحدثون عن الثورة ويعلقون علي ما حدث فيها؟
غير أن الأمر يحتاج إلي شيء من التعمق والتدقيقrlm;,rlm; فالذي لا نراه أكثر من الذي نراهrlm;,rlm; لأن الحدث الباهر يستغرقنا ويثير انفعالنا ويستولي علي حواسنا وعقولنا فلا نتمكن من الإحاطة به وتفسيره كما يجبrlm;,rlm; ومادام عصر المعجزات قد ولي فنحن لسنا أمام معجزةrlm;,rlm; بل أمام فعل بشري لا تمنعنا عظمته من فهمه وتفسيرهrlm;.rlm; ولنبدأ بالسؤال عن الباعث الذي حرك الثورة قبل أن نسأل عن حركتها وكيف انطلقت شرارتها واستعرت جذوتها وامتد لهيبها حتي لم يعد بوسع أحد أن يقف في وجهها بل أصبح علي الجميع أن يمتثلوا لها ويلبوا مطالبهاrlm;.rlm;
والإجابة التي يقدمها الثوار أنفسهم حين يسألون عن الباعث هي أنهم ثاروا علي الطغيان المتمثل في السلطة ومؤسساتها والقائمين عليهاrlm;,rlm; وعلي الفساد الذي تسبب فيه الطغيانrlm;,rlm; وهم بالتالي يطالبون بديمقراطية حقيقية يحكم فيها الشعب نفسه بنفسهrlm;,rlm; فيختار حكامهrlm;,rlm; ويراقبهمrlm;,rlm; ويحاسبهمrlm;,rlm; ويفرض عليهم أن يمتثلوا لإرادتهrlm;,rlm; ويلتزموا المبادئ والقوانين التي تضمن للإنسان حريته وكرامته وأمنه ورخاءهrlm;.rlm; فإذا كانت هذه هي أهداف الثوار ومطالبهم فثورة الخامس والعشرين من يناير لم تكن ثورة ضد حسني مبارك وحده وإنما كانت ضد النظام الذي أتي بحسني مبارك ومكنه من أن يحكم المصريين ثلاثين عاما حكما مطلقا تضوروا فيه جوعاrlm;,rlm; وذاقوا مرارة القهر والذل والهوان الذي لم ينل منهم كأفراد فحسبrlm;,rlm; بل نال منهم كجماعة وشعب أهين كله وسخرت لإهانته وترويضه لقبول الإهانة والاستسلام لها كل أجهزة السلطةrlm;,rlm; فلم تعد الإهانة لازمة عن ظروف قاسية يتعرض لها أشخاص ولا يتعرض لها غيرهمrlm;,rlm; وإنما أصبحت الإهانة قدرا مفروضا علي المصريين جميعاrlm;.rlm;
هذا النظام الذي أذل المصريين لم يصنعه حسني مباركrlm;,rlm; بل هو الذي صنع حسني مبارك وجعله طاغيةrlm;,rlm; وإذا كان كل شيء قد فسد في ظل حسني مبارك فالذين سبقوا حسني مبارك هم الذين أسسوا لهذا الفسادrlm;.rlm;
حسني مبارك بقي في السلطة ثلاثين عاما لأن أنور السادات غير الدستور ليفتح لنفسه باب التمديد علي مصراعيهrlm;,rlm; وفي مقابل ذلك رشا الجماعات الدينية بالمادة الثانية التي جعلت الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للقوانين فوقفت هذه الجماعات إلي جانبه في الحرب التي أعلنها علي المثقفين الذين تصدوا لهrlm;,rlm; لكن هذه الجماعات هي التي أفرزت من تآمروا عليه وقاموا باغتيالهrlm;,rlm; والذي صنعه السادات في الدستور صنعه من قبله جمال عبدالناصر الذي حل الأحزابrlm;,rlm; وأوقف العمل بالدستور الديمقراطي الذي صدر عن ثورةrlm;1919,rlm; وانتزع الصحف من أيدي أصحابها ليضعها في خدمتهrlm;,rlm; وأنشأ وزارة الإعلام لتحجب علي المصريين ما تريد السلطة أن تحجبه من الحقائق وتشيع فيهم ما ترغب في إشاعته من دعايات كاذبةrlm;.rlm;وإذا كان السادات قد رشا الجماعات الدينية بالشريعة فقد رشا عبدالناصر الجماهير بالاشتراكية التي لم تكن إلا شعارا مزيفا مكنه من السيطرة علي وسائل الانتاج وتحويلها إلي إقطاعات وزعها علي رجالهrlm;.rlm; وانتهي الأمر بخرابها وخراب البلاد كلهاrlm;.rlm;
ثورة الخامس والعشرين من يناير ثورة علي انقلاب يوليو عامrlm;1952rlm; تضع حدا له وتسقط نظامه المهزوم الفاسدrlm;,rlm; هذه حقيقة يجب أن نسلم بها وأساس يجب أن نبدأ منهrlm;,rlm; وليس يحق لمن لا يزالون يدافعون عن الانقلاب ويريدون أن يواصلوه أو يكرروه أو يرثوه أن يتمسحوا في الثورةrlm;,rlm;لا يحق للحكام الإيرانيينrlm;,rlm; ولا للأحزاب والجماعات الدينية في مصر ولبنان وفلسطين أن يتمسحوا في ثورة الخامس والعشرين من ينايرrlm;,rlm; لأن المستبدين وحلفاءهم لا يمكن أن يقفوا إلي جانب ثورة من أجل الديمقراطيةrlm;,rlm;فإن فعلوا فهم يريدون أن يسرقوهاrlm;.rlm; ونحن لن نمكنهمrlm;!rlm;