محمد السمّاك
إذا كان عبق ثورة الياسمين في تونس وصل الى مصر وأطلق مشاعر التمرد الشعبي على حكم الرئيس المصري حسني مبارك، فأي عبق ينتظر مصر ليطلق أدبيات مرحلة ما بعد حسني مبارك ؟
تكتسب الإجابة عن هذا السؤال أهمية استثنائية، لأن مصر بعد مبارك ليست كما كانت قبله، ومعه، فهي تلعب دوراً مؤثراً في المعادلات السياسية المتداخلة على الصعيد العربي العربي، وعلى الصعيد العربي الاسرائيلي، وعلى الصعيد العربي الإيراني، وكذلك على الصعيد العربي الدولي وتحديداً الأميركي.
هناك علامات استفهام حول ما إذا كانت مصر بعد مبارك سوف تتحول الى ما آلت اليه إيران بعد الشاه محمد رضا بهلوي. أي الانتقال من حارس للمصالح الأميركية في المنطقة الى خصم لها. ومن متحالف مع اسرائيل الى معاد لها. ومن متجاوز للحقوق الفلسطينية الى متبنٍ لها. ومن سيطرة الفرد الواحد، الى سيطرة الفرد ولي الفقيه.
وتنطلق علامات الاستفهام هذه من أن المسافة بين الدولة والسلطة كانت شبه معدومة أيام الشاه، والى حد كبير أيضاً أيام الرئيس مبارك. فالدولة والسلطان وجهان لحالة واحدة. لم يتغير الأمر في إيران بعد الشاه، فهل يتغير في مصر بعد مبارك ؟
إن الجواب عن هذا السؤال يتوقف على آلية التغيير التي سوف تعتمدها الافرازات السياسية للحركة الشعبية الانقلابية على نظام الرئيس مبارك، وتالياً على طبيعة النظام الذي سيقوم على أنقاض النظام الذي طوت صفحاته أولاً الاستقالات الجماعية لأركانه من الدولة ومن والحزب.. وحتى من الحياة العامة.. ومن ثم استقالة رئيس النظام نفسه، الرئيس حسني مبارك.
كذلك يتوقف الجواب على الدور الذي سيلعبه الجيش المصري في الحياة السياسية بعد الأشهر الستة الانتقالية التي حددها بنفسه.. فهل يعود الى الواجهة من جديد، أم انه يقتدي بما فعله الجيش التركي الذي علمته سلسلة تجارب الانقلابات العسكرية انه لا بد في نهاية الأمر من انه quot;ما لقيصر لقيصر.. وما لله للهquot;، أي ان يترك السياسة لأهلها، وللمجتمع المدني.. وأن يتفرغ الجيش لمسؤولياته الأمنية ؟
فإذا كان صحيحاً أن الحروب أخطر وأهم من أن يترك أمر البتّ فيها الى العسكريين وحدهم، فمن الأولى أن تكون السياسة أهم وأخطر من أن يترك للعسكريين حرية التدخل المباشر في شؤونها وشجونها المتداخلة والمعقدة.
لقد أدرك هذه الحقيقة الجنرال التركي كنعان افرين الذي نأى نسبياً بالجيش عن السياسة وترك الباب مفتوحاً أمام الأحزاب السياسية لتتصارع على السلطة.. ثم توالى تراجع الجيش وتقدم الأحزاب السياسية حتى أفِلَتْ النجوم العسكرية ولم تعد تُرى الا على أكتاف الضباط داخل الثكنات أو أثناء الاستعراضات العسكرية. ولا شك في ان طموح تركيا للانضمام الى الاتحاد الأوروبي، وشروط الاتحاد بوجوب قيام نظام حكم مدني ديموقراطي سليم يحترم الحريات العامة، ساهم في تسريع هذا التحول وفي تحقيقه. إلا ان المهم هو ان النتائج كانت مهمة للغاية. فتركيا اليوم التي يساوي عدد سكانها عدد سكان مصر ( أي نحو 80 مليوناً ) تتمتع باقتصاد يبلغ أربعة أضعاف حجم الاقتصاد المصري. ثم ان دور تركيا السياسي في الشرق الأوسط، وفي شرق آسيا والبلقان، وفي حلف شمال الأطلسي يجعل منها دولة مهمة تتمتع باحترام دولي كبير. وبالمقابل تبدو مصر منكمشة على ذاتها عاجزة عن التحرك الفعال حتى في السودان الذي انقسم على نفسه في غياب أي دور لمصر وهي المعنية به استراتيجياً على الصعيدين الأمني والمائي. ولقد كانتا دولة واحدة أيام محمد علي الكبير. ومشهورة الأغنية الوطنية التي تقول quot;السودان لمصر.. ومصر للسودانquot;. ولكن أين مصر اليوم من السودان ؟. بل أين شمال السودان من جنوبه؟. وهل كان ذلك كله ليحدث لو أن مصر كانت حاضرة وفعالة، مثل الحضور التركي الفعال في المنطقة ؟.
عندما كان الرئيس مبارك يشكو من أن دولة عربية خليجية قطر- تحاول أن تلعب دوراً أكبر من حجمها، كان يتلقى اشارات ذكية من دولة عربية خليجية أخرى الكويت- بأن ذلك يعود اساساً الى إحجام الدولة صاحبة الحجم الكبير مصر- عن اداء الدور الكبير المتوقع منها.
أدى غياب الدور المصري الى خلل في العلاقات العربية العربية، والى اقتحام تركي وإيراني للساحة العربية. وأدى كذلك الى تصاعد في الغطرسة الاسرائيلية بحيث تمكنت اسرائيل من أن تلوي ذراع سياسة الرئيس الأميركي باراك أوباما في الشرق الأوسط وأن تحمله على التراجع عن الوعود التي قطعها على نفسه وعلى ادارته بتحقيق حل عادل وسريع للقضية الفلسطينية.. وذلك من دون أن تخشى من رد فعل عربي عام أو مصري خاص يسيء الى المصالح الأميركية أو حتى الى المصالح الاسرائيلية.
فقد بلغت السياسة المصرية في السنوات الأخيرة من عهد الرئيس السابق مبارك حالة من الترهل غابت فيها عن معالجة قضايا الداخل الاجتماعية والاقتصادية، فاستفحل الفقر والفساد والرشوة. وغابت الدولة عن معالجة قضايا الخارج السياسية والأمنية، فتوسعت الانقسامات العربية العربية وتعطل اداء جامعة الدول العربية، وأصبح كثير من العرب يلهثون وراء مبادرات خارجية لها حساباتها ولها أولوياتها التي تتقدم على الحسابات وعلى الأولويات العربية.
ففي الوقت الذي تقف فيه إيران اليوم أمام بوابة النادي النووي الدولي، وفي الوقت الذي تقف فيه تركيا أمام بوابة الاتحاد الأوروبي بحجم اقتصادي يساوي نصف حجم الاقتصاد العربي مجتمعاً من المحيط الى الخليج !! فان المجموعة العربية تقف أمام علامة استفهام لا تملك الإجابة عنها.
لقد تسلم الرئيس مبارك الحكم في عام 1981 بعد اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات. فأين مصر اليوم مما كانت عليه في ذلك الوقت ؟
وتسلم الرئيس رجب طيب أردوغان الحكم في تركيا في عام 2003 بانتخابات شعبية مباشرة. فأين هي اليوم مما كانت عليه في ذلك الوقت ؟
بالمقارنة لم يؤدِ نظام الرئيس مبارك الا الى المزيد من السلطة المطلقة، مما ادى الى الفساد المطلق، وهو الذي أشعل فتيل الانتفاضة التي أطاحت به وبنظامه السياسي.
لقد نجح أردوغان في دفع مسيرة الديموقراطية والانفتاح والتقدم الاقتصادي قدماً الى الأمام حتى أصبحت تركيا اليوم قوة مهابة في المنطقة وفي العالم.
من هنا العودة الى السؤال الأساس، وهو هل تقتدي مصر بعد مبارك بالتجربة التركية لتستعيد ذاتها، ولتجدد دورها ؟ فإذا كانت تونس قدوة في الانتفاضة، فهل تكون تركيا قدوة في النهضة ؟
لم تكن مصر مهمة لنفسها فقط. انها مهمة للعالم العربي ولافريقيا، بل للعالم الثالث كله أيضاً. وقد خَفَتَ نور هذا الدور على غفلة من الحكم المصري سنة بعد سنة وطوال العقود الثلاثة الماضية، حتى تجرأ على مصر من كان يهابها ويخشاها، بل حتى أصبحت مصر تخشى على حصتها من مياه النيل !..
غير ان مصر ليست غنية بعدد سكانها فقط، ولكنها غنية بطاقاتها الانسانية وبثرواتها الطبيعية وبموقعها الستراتيجي، وهي قادرة بهذا المخزون الغني من الإمكانات أن تقف على رجليها من جديد لتستأنف دورها القيادي في العالمين العربي والاسلام.
التعليقات